Sunday 21 November 2010

في نقد النوسطالجيا :(3) في الفكر :(6) : في اللغة شعرا

اللغة هي "أصوات يعبّر بها كل قوم عن أغراضهم " كما قال بن جني، وبحسب الجاحظ فوظيفة اللغة هي "البيان"، أو "الإنباء"، أو هي "الإخبار" كما ذهب المعتزلة، وبالأخص القاضي عبدالجبار الأسدأبادي.

لايختلف إثنان أن اللغة هي النتاج التعبيري عن العلاقة بين الذات و الذات من جهة والذات والموضوع من جهة أخرى، بوصف آخر هي العلاقة التعبيرية (إخبار/ تبليغ/ وصف/ بيان) عن الرابط بين الإنسان والإنسان، والإنسان والله، والإنسان والمحيط/ الكون.

إلا أن ما يجب علينا التشديد عليه هو أن اللغة وليدة الحاجة التعبيرية عن المجتمع الإنساني، لذا كانت درجة التماهي متقاربة حد التطابق بين الحاجة الإنسانية للمجتمع والحاجة الإجتماعية للغة – إنسانيا.

المعرفة و اللغة :

 "إن الفرق بين الإنسان والبهيمة، والإنسان والسبع والحشرة، والذي صَير الإنسان إلى إستحقاق قوله عز وجل : "وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا منه"، ليس هو الصورة، وأنه خلق من نطفة وأن أباه خلق من تراب، ولا أنه يمشي على رجليه، ويتناول حوائجه بيديه، لأن هذه الخصال كلها مجموعة في البله والمجانين، والأطفال والمنقوصين. والفرق إنما هو في الإستطاعة والتمكين، وفي وجود الإستطاعة وجود العقل والمعرفة. وليس يوجب وجودهما وجود الإستطاعة" (الجاحظ: الحيوان).

لذا كانت الإستطاعة والتمكين شرطا للمعرفة الحيوييّن، ومن هنا وجدت شرطية الإستطاعة / التمكين للغة بالتوازي باعتبارها أداة تعبيرية عن تلك المعرفة، بمنطقها الفردي / الذاتي، وبمنطقها الجمعي. "فحاجة الغائب موصولة بحاجة الشاهد، لإحتياج الأدنى لمعرفة الأقصى، وإحتياج الأقصى لمعرفة الأدنى....وجعل حاجتنا إلى معرفة أخبار من كان قبلنا، كحاجة من كان قبلنا إلى أخبار من كان قبلهم، وحاجة من يكون بعدنا إلى أخبارنا " ويكمل الجاحظ مفصلا أنواع البيان قائلا: "ولذلك فإن الله لم يرض للبشر من البيان بصنف واحد وجعل آلة البيان التي يتعارفون معانيهم، والترجمان الذي إليه يرجعون عند إختلافهم في أربعة أشياء.. اللفظ والخط والإشارة والعقد" (الجاحظ : الحيوان).

لذا فالمعرفة الإنسانية وأساسها العقل الإنساني وبذرته الفردانية (العقل : لفظ بفردانيته يميز الجمع كما المفرد والإنسانية : لفظ أصله مفرد دال على الجمع)، هو الوسيلة التي يتعرف بها الإنسان على ذاته الإنسانية، والله والمحيط، أما اللغة، فهي الكينونة التي يتمظهر بها الله والذات والكون / المحيط للإنسان، وبالتالي فالإستطاعة/ التمكين كما هي شرط للمعرفة هي شرط لللغة تعبيرا، ومن هنا فاللغة هي كما الإنسان وفردانيته : حالة من "التخلق" الدائم، الذي لا يعرف الثبات ولا السكينة إلا بالموت، "تعبيرا" عن الحركية المعرفية الدائمة والأبدية التي لا تعرف حدا، بجانبيها الحسي ماديا والميتافيزيقي روحانيا.

أبو الحروف : شخصية كرتونية قديمة مهمتها حماية اللغة

وبعيدا عن الخوض في تراتبية حركة العقل بين:

التصاعد:من جزيئات العالم المدرك حسيا / ماديا وصولا إلى مدركات الكليات العقلية والمفاهيم المجردة والقيم المطلقة، وما نتج عنه من أسبقية العقل على الشرع، وشرطية القناعة العقلية لفهم الشرع، أو

التنازل: من القيم والمفاهيم المجردة والكليات العقلية إلى جزيئات المادة المحسوسة ماديا، مع الإبقاء على عجز العقل على التفكر في شيئيات بذواتها بعديد الحجج -المطاطة- الرأسية.

يمكننا القول بأن اللغة في الحالتين تمثل إنعكاسا للمعرفة الإنسانية، تستلزم تحررا من الأنساق الأيديولوجية والثيولوجية المعطِّلة (بالإستعاضة عن الخجل اللغوي القائل بالتمكين والإستطاعة فيمكننا القول الحاجة للتحرر من الأسقف الفكرية والقيود أيا كانت لضمان تمام التمكين والإستطاعة)، باعتبارها – اللغة- علما دلاليا قائما على الملاحظة والتسجيل والشك والتجربة. وهنا يحدثنا الحارث بن أسد المحاسبي، الذي يعده الأشاعرة أساس مدرستهم أن الدلالات نوعان :

"عين ظاهر، وخبر قاهر. والعقل مضمن بالدليل، والدليل مضمن بالعقل، والعقل هو المستدل، والعيان والخبر هما عله الإستدلال وأصله، ومحال كون الفرع مع عدم الأصل، وكون الإستدلال مع عدم دليل. فالعيان شاهد على الغيب، والخبر يدل على الصدق ". ومن هنا يتبدى لنا الرابط العضوي بين اللغة كعلم دلالي و العقل كعملية معرفية يمنح القيمة الدلالية للعيان الظاهر أو الخبر القاهر القيمة وتستلزم تلك العملية وجود حرية للعقل واللغة معا، لا تتولد إلا بالتحرر من القيود المعرفية والأيديولوجية إرتقاءا من مستوى لآخر.

ويعري كل ذلك، تهافت تعطيل العقل لصالح النقل، ومدى انعكاس ذلك التعطيل والشلل على الفعل اللغوي باعتباره فعلا عقليا.

اللغة شعرا :

"ما كنت لأقول شعرا بعد أن علمني الله سورة البقرة و آل عمران" لبيد بن ربيعة*1
"ارووا من الشعر أعفه" عمر بن الخطّاب*2

لطالما كان الربط في النص القرآني باديا وبوضوح بين الشاعر والساحر والمجنون والكاهن، بل والشيطان، قال تعالى: "والشعراء يتبعهم الغاوون / ألم تر أنهم في كل واد يهيمون / وأنهم يقولون مالايفعلون"*3 "بل قالوا اضغاث أحلام بل افتراء بل هو شاعر" 4. وغذا كان علي بن أبي طالب قد قدّم الشعر بقوله : (الشعر ميزان القول) / وفي رواية ثانية "القوم"، فالشعر: "هو الكلام الموزون المقفى الذي قصد إلى وزنه وتقفيته قصدا أوليا " *5،ولا يعد القرآن ولا الحديث شعرا، ويميّز التهانوي بين الشاعر و الحكيم بقوله:

فالأول "يكون المعنى منه تابعا للفظ، لأنه يقصد لفظا يصح به وزن الشعر وقافيته، فيحتاج إلى التخّيل لمعنى لمعنى يأتي به لأجل ذلك اللفظ... والشاعر قصد المعنى فيكون اللفظ منه تبعا للمعنى" بينما الحكيم "قد يقصد معنى فيوافقه وزن شعري، ولكن الحكيم بسبب ذلك الوزن، لا يصير شاعرا".

وبعيدا عن الإفراط في التقديم بما لا يخدم المتن، لايصعب على أحد أن يستقريء / ما للفردانية الإنسانية بمفرداتها التكوينية معرفيا ولغويا و أخلاقيا ودينيا وثقافيا وحياتيا وحتى أيديولوجيا، بالتراكم من عميق الأثر في اللغة التعبيرية شعرا، في التراكيب الأسلوبية، ولأن الفردانية لا تقتفي نمطا إلزاميا، كانت كذلك البنية الشعرية التعبيرية، فالفردانية أصل إنساني يمثله الإختلاف الإنساني الطبيعي، باختلاف الكينونة والهوية الفردية، جاعلة من التراكيب الخاصة بأي فعل لغوي شعرا، إنما هي إبتداع تعبيريا على الأقل وليس مضمونا فقط.

ولكن ولأن الشعر كان أحد أهم مجالات التميز في العقلية العربي لدى قريش إبان الدعوة الإسلامية، ولأن إعجاز النص الديني الأساس – الأصل هو في الأصل إعجاز لغوي بياني، برزت الحاجة للتعامل مع ديناميكية الفعل اللغوي الشعري بما يخدم الجماعة والوحدة العضوية، وبتذويب الخط الفاصل بين الأيديولوجيا والثيولوجيا، إختلف التعامل الديني مع الشعر، فهو ليس كما السحر و الكهانة و التنجيم، بالمطلق، إنما عومل الشعر انتقائيا وظيفيا.

وضع الشعر في خدمة الدين، فأصبح أداة، ليس منوطا بها أن تعكس تعبيرية العلاقة وذاتيتها مع الذات و المحيط، بقدر ما أريد لها أن تقوم بوظيفة أيديولوجية، بمعنى آخر، إذا فرضنا "إن من البيان لسحرا" *6، يسحر القلب و العقل، فليكن سحرا لخدمة الدين، أي غاية تبرر الوسيلة، وهو مبدأ أيديولوجي عتيق.

فكما كان يروى عن الرسول الكريم (ص) : "إنما الشعر كلام مؤلف فما وافق الحق منه فهو حسن، ومالم يوافق الحق منه، فلا خير فيه" وكذلك قوله (ص): "إنما الشعر كلام، فمن الكلام خبيث و طيب" *7، ومن ذلك أيضا ما روي أن كعب بن مالك بن أبي الأنصاري كان يقرأ شعرا للنبي فقال :

مجالدنا عن جذمنا كل مفخمة       مدربة فيها الفوانس تلمع 

فقال له الرسول (ص) : "لا تقل عن جذمنا، وقل عن ديننا" *8، وفي رواية أن النبي (ص) اذن لحسان بن ثابت أن يهجو كفار قريش، قائلا له :
"إذهب إلى أبي بكر، فليحدثك حديث القوم و أيامهم وأحسابهم، ثم أهجهم وجبريل معك" *9.

لذا لا تخفى أهمية الدلالة فيما يروى عن النبي (ص) من ذكره لإمرئ القيس: "هو قائد الشعراء في النار"*10، فالرسول نظر للشعر نظرته للكلام، فقبيحه قبيح، وحسنه حسن، وليس باعتباره أداة تعبيرية بيانية لها قراءاتها، إنما هو أداة أيديولوجية، متاحة في حرب الأفكار والأيديولوجيات، ولنا في ذلك أمثلة كابن خطل وابن حبابة، ومن قتل الشعراء دليل، أو حتى من هرب منهم كابن الزبعري وهبيرة بن أبي وهب وغيرهم.



ومن ذلك أيضا ماقاله الرسول الكريم لحسان بن ثابت: " والله لشعرك أشد عليهم من وقع السهام في غبش الظلام" *11، وما جاء أن النابغة الجعدي أنشد بين يدي رسول الله (ص) قصيدة يقول فيها :

علونا السماء عفة وتكرما      وإنا لنبغي فوق ذلك مظهرا

فغضب النبي (ص) و قال : "أين المظهر يا ابا ليلى؟"،فقال : "الجنة بك يا رسول الله". فقال له النبي: "أجل إن شاء الله".*12

كما كان الرسول الكريم (ص) يستحسن البعض من الشعر الجاهلي في المقابل، فقد روي أنه أنشد قول عنترة :

ولقد أبيت على الطوى و أظله       حتى أنال به كريم المأكل

فقال :"ماوصف لي اعرابي قط فأحببت ان أراه، إلا عنتره" *13، كما يروى أنه أنشد قول أمية بن أبي الصلت :

الحمد لله ممسانا ومصبحنا       بالخير صبحنا ربي ومسانا

فقال : "إن كان أمية ليسلم"*14، وهو مبدأ ما حاد عنه أي من الخلفاء الراشدين، فمثلا حينما سمع أبو بكر قول زهير في هرم بن سنان :

والستر دون الفاحشات و      مايلقاك دون الخير من ستر

قال : "هكذا كان و الله رسول الله (ص)"، وقوله أيضا : "أشعر شعرائكم زهير"*15،، فالمضمون الأخلاقي في بيت زهير هو أساس الحكم بصيغة التفضيل: "أشعر" الشعراء، وإذا أشرنا إلى أن ابو بكر كان عالما بالشعر و الأخبار، إزداد إدراكنا لأهمية الحكم أيديولوجيا.


نخلص في النهاية للتالي:

1. أقر الإسلام الشعر شريطة أن يكون أداة لخدمة الدين، فلا تقوم الأداة لذاتها، إنما لوظيفتها كجزء من الخطاب الأيديولوجي، أي كوسيلة (تقارب السحر والكهانة والتنجيم سوءا) لغاية أسمى، بتذويب الخط الفاصل بين الثيولوجيا بقيمها الروحية، والأيديولوجيا بقدراتها ومجالاتها المادية، فصار الكاتب يحرك "سحر البيان" لنصرة فكرة ما أو صراعها، في تطور مؤدلج لفكرة المدح و الهجاء.

2. اختصار القيمة الجمالية للشعر في قيمة المضمون وليس في الوسيلة التعبيرية (الفعل اللغوي)، مما يجعل الجمال كقيمة متجاوزة للنص وتراكيبه وبيانه إلى الدين، جاعلا من اللغة/ الشعر/ التعبير/ البيان وسيطا.

3. المضمون الذي أقرّه الإسلام ودعا للتعبير عنه ثابت بثبوت النص الديني، وقد أوحي وبلِغ سلفا، وهو حقيقة كاملة، ثابتة و نهائية، تتضمن ما كان وما سيكون على وزن "يجب ما كان قبله"، لذا (فالنقل) هو سقف العملية التعبيرية لغويا فلا قيمة لها.

4. بثبوت المضمون – بالنص الثابت -، و اعتبارية اللغة / شعرا واسطة، خبت أهمية القياس الجمالي، أو قلت اهميتها وسكنت في قيمة المضمون خارجها، وجعلت مركزية اللغة جماليا ليست في تطوراتها السابقة واللاحقة بل في مركزية القيمة الدينية الثابتة و المستحوذة.

هل يمكن لنص أن يستنفد الوجود، فيحيط به إحاطة كلية، ويقوله كما هو في ماهيته وتماميته ومابين ذلك، بحيث يتحقق العلم الكلي، علم الوجود بما هو موجود؟
الإجابة دينيا عن هذا السؤال هي بالإيجاب القطعي و المستحوذ.حقيقة وتأويلا.
ولأن النص الديني معجز لغويا – وهو كذلك – في التراكيب و البنى و الخطاب و البيان، فما الحاجة الإنسانية لإبداع آخر أو مقاربة لغوية تعبيرية أخرى، بعيدا عن المنطق الرأسي للقياس بين الإثنين وما يؤسس له من تهم أيديولوجية معلبة.

تلك هي مشكلة الإستحواذ المطلق –غيبيا أو دنيويا – فهو طرح لحالة من الكمال والنهائية في التسمية والتعبير، وماعداها فهو باطل، وما قاربها كذلك، وبعيدا عن التخوّف الأيديولوجي بستار ثيولوجي، لأي مقاربة لغوية، بداع متهافت: التماهي، وهو قفز في حد ذاته على الإعجاز السماوي للنص الديني في البنية اللغوي والتراكيب، فإن اللغة شعرا هي أحد أهم صنوف الأدب التعبيري أو بحسب صموئيل فون بوندروف*16، الذي يتجاوز الطبيعة (المحيط) بالتثقيف، أو كما وصفه فولتيير "تكوين الروح" كمظهر مميز للشعوب ومعبر عنها وعن خصوصياتها الحضارية والمجتمعية، فهو وعيها البشري، الخلّاق بالحياة.

فإذا كان "العربي يحب لغته إلى درجة التقديس، وهو يعتبر السلطة التي لها عليه (تعبيرا) وليس فقط عن قوتها، بل عن قوته هو أيضا، ذلك لأن العربي هو الوحيد الذي يستطيع الإستجابة لهذه اللغة والإرتفاع إلى مستوى التعبير البياني الذي تتميز به " *17، فيجب أن نبقي في البال إيمانا:

بأن عبارة ارسطو الشهيرة "الإنسان حيوان ناطق" في صيغتها العربية، هي الأقرب لصيغتها اليونانية الأم، وعبقريتها الخاصة، والتي تقول بأن "الإنسان حيوان لوغوسي"، ولوغوس في اليونانية لا تعني عقلا فقط كما هو الحال في الترجمة الإنجليزية الفقيرة تعبيريا، بل كذلك "لغة وبيان وعقل *18، كما هي عملية النطق في العربية.

إن تحرير الفعل اللغوي / التعبيري / البياني / التركيبي من سطوة ثبوتية النص، واستحواذاته، إنما هو تحرير لأبجديات وتروس العقل العربي، وتحرير للذاكرة اللغوية وتجاوزا للعوائق المعرفية، من دون المزايدة على إعجاز النص الديني، ولا تجميد اللغة بفهم خاطئ "لحفظ الذكر" فذلك بحيوية اللغة وليس بثبوتية النص.

لنجد أنفسنا في النهاية خارج المساءلة الذاتية التي أسس لها محمود درويش قائلا: (هل لشعب يملك شعراء كبار أن يسيطر على شعب لا شعراء له؟؟ وهل لشعب أن يكون قويا بدون أن يكتب شعرا؟؟؟) وذلك تعقيبا على شعر هوميروس الشاعر الإغريقي الذي روى ملحمة طروادة من طرف الحصان.فلنبحث عن فنوننا ليضيء بنا تاريخنا ولكي لا نقف أمام الحكاية يوما غير مكتملين ننتظر شاعرنا الذي قتلناه.



رابط المقال على صفحات عرب ال48:
_____________________________________________________________
الهوامش:
1. يروى عن عمر بن الخطاب أنه قال للبيد مرة: "أنشد من شعرك"، فقرأ سورة البقرة، وقال ما قاله، فزاده عمر خمسمائة درهم وكا، ألفين: (موسوعة الشعر و الشعراء الجزء الأول ص 196).
2. المصدر السابق ص 197.
3. سورة الشعراء 221-227
4. سورة الأنبياء 5.
5. راجع مادة الشعر في موسوعة اصطلاحات العلوم الإسلامية (كشّاف اصطلاحات الفنون ص 744 -746) أما عن الآيات والأحاديث الموزونة فيعلّق عليها التهانوي: وهذا لا يسمى شعرا.
6. الموطأ للإمام مالك بن أنس، باب ما جاء في الغيلة والسحر ص 543، والسحر هاهنا – بحسب لسان العرب مادة "سحر" أي خدعه وسلب لبه وصرفه عن الأمر، وهو شبيه بالمرادفة مع ما ورد في لسان العرب تحت باب "كهن"و "جن".
7.  محمد والفنون، لعبد المجيد وافي – مؤسسة العربية للدراسات والنشر – بيروت 1972 ص 109-132
8. المحدث الفاصل، لابن خلاد الرامهرمزي (مخطوط بدار الكتب المصرية) ص 151، نقلا عن الثابت والمتحول لأدونيس، دار الساقي 2002 الطبعة الثامنة – الجزء الأول ص 350.
9. كتاب الأغاني – الأصفهاني - طبعة دار الكتب الجزء الرابع ص 318.
10. من كتاب الشعر والشعراء، ص67، وفي خبر آخر قوله: "ذاك رجل مذكور في الدنيا شريف فيها، منسي في الآخرة، خامل فيها، يجيء يوم القيامة، معه لواء الشعراء إلى النار.
11. البيان و التبيين – الجزء الاول ص 268 نقلا عن " الثابت و المتحول " لأدونيس – هوامش الفصل الثاني من الجزء الأول ص 352.
12- المصدر نفسه.
13. كتاب الأغاني – طبعة دار الكتب الجزء الثامن ص 243
14. المصدر نفسه الجزء الرابع ص 129 – 130.
15.المحدث الفاصل ص 14.
16. إشكاليات العقل العربي – جورج طرابيشي دار الساقي - بيروت 1998 ص 72.
17. المعجم الإشتقاقي للغة اليونانية ص 625.

Tuesday 16 November 2010

انقلاب حزب العمل : "معهم ولاّ علّينا"؟؟

لابد أن تستوقفنا الأحداث الأخيرة الجارية في أروقة "حزب العمل" الإسرائيلي، وذلك بالتوازي مع بعض الأحداث على الساحة الامريكية –بالذات بعد انتخابات الكونجرس الأمريكية-، وانعكاسات كل ذلك عالميا وعربيا – بالأخص. حيث يتعرض زعيم حزب "العمل" ووزير الأمن الإسرائيلي إيهود باراك، لشبه إنقلاب منظم داخليا، لن يمر باعتباره شأنا داخليا فحسب، إنما وبإعادة تعليب وتصدير لما اسماه نتنياهو "الجدية" في البحث عن السلام، يمكننا القول:

حزب العمل الذي يتزعمه إيهود باراك هو طرف في الحكومة الإئتلافية الحالية برئاسة بنيامين نتنياهو، وللحزب 13 مقعدا في الكنيسيت، إلا أن تلك المشاركة لم تمنع تصنيف الحزب رابعا على الساحة الإسرائيلية، وهو ما يعد تدهورا غير مسبوق، بدأ منذ إنتكاسة الحزب في ال2001، التي بدأت بالإطاحة بباراك من سدة رئاسة الحكومة لصالح جنرال الحرب أرييل شارون، وتغيير ستة زعماء للحزب في ثمان سنوات، ومغادرة أهم رموزه : الرئيس السابق له شيمون بيريس، وحاييم رامون، وداليه إيتسيك، وهو ما صرح به الأمين العام السابق للحزب إيتان كابل قائلا: "إن حزب العمل قد ضلّ طريقه منذ سنوات، وباراك ليس إلا حفّار قبور".

ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل تقافمت تباعا الأمور، ليتحد زعيم نقابات العمال (هستدروت) في إسرائيل عوفر عيني، و الذي كان من أبرز الداعمين لترشح بارك لرئاسة الحكومة والحزب، مستغلا الضغط الميداني للإضراب الأخير للنقابات والذي كاد أن ينتهي بإسرائيل لحالة من "الشلل التام"، جنبا إلى جنب مع وزير الصناعة و التجارة بنيامين بن إليعازر (صديق الأمس)، في المناداة "بخلع" باراك من رئاسة الحزب ونزع الثقة عنه، وهو ما أعلنه الأخير في مؤتمر مع أنصاره، وهو المعروف بصلاته النافذة داخل الحزب.
 ما يهمنا من كل تلك المستجدات، و التي من السابق لأوانه القطع أو الجزم بنهاية تلك الحروب الداخلية في الحزب، أو حتى تحديد المنتصر داخله، و إنعكاس ذلك على الحكومة الإئتلافية بدرجة أقل، هو علاقة كل ذلك بالمسألة الفلسطينية الإسرائيلية في جانب محادثات السلام منها، وهنا يجدر الإشارة إلى التالي:

إيهود باراك يمثّل بجثة الشهيدة دلال المغربي

* دور رئيس الحكومة الإسرائيلية:
حيث يعمل نتنياهو على توظيف شعبية باراك كوزير للأمن، باعتباره "سيد الأمن"، كما إعتبره العديد من الإسرائيليين في إستطلاعات الرأي، باعتباره أكثر العسكريين الإسرائيليين تتويجا بالأوسمة لكثرة العمليات العسكرية التي نفذها خارج حدود الدولة العبرية، والتي كان منها المشاركة المباشرة في عمليات تصفية لقيادات في المقاومة الفلسطينية، وإن كانت تلك الشعبية آخذة في الإنخفاض، بحسب آخر استطلاعات الرأي منذ ثلاثة أسابيع. ذلك التوظيف لما يمثله الحزب باعتباره "معسكر السلام"، إنما يعمل على تقديم الإئتلاف الحكومي الحالي برئاسة نتنياهو على أنه قبة جامعة لمختلف أطياف الشارع الإسرائيلي نحو هدف واحد وهو السلام، وذلك ما يمكن إستشفافه من عرض نتنياهو الأخير للإدارة الأمريكية : الجاسوس (دلمار) مقابل إيقاف الإستيطان.

* توظيف دور الشارع الإسرائيلي:

وبالذات المؤيد لإستمرار العملية السلمية بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وهو معسكر الدعم لحزب "العمل"، والذي إصطف إلى جانب إليعازر وكابل وعيني، وهو ذات الفريق الذي – بحسب وصف الغارديان البريطانية – يمارس ضغوطا على الحزب بقيادة باراك " لتفضيله وزارة الأمن في حكومة يمينة متطرفة على حساب مصلحة الحزب والتي تقضي بأن يكون في صفوف المعارضة بصفته قائدا لمعسكر السلام ليقترح على الناخب الإسرائيلي بديلا لحكم اليمين".

ويجدر هاهنا القول، أن تلك الإنتقادات طالت ايضا وزراء "العمل" اسحق هرتسوغ وزير الرفاه و الخدمات الإجتماعية، و أفيشاي برافيرمان وزير شئون الأقليات – و المعارض لقانون قسم الولاء وتبعاته الأربعة عشر-، لبقائهما ضمن الإئتلاف الحكومي الحالي، حيث اشار كابل : "لا يمكن للحزب أن يرمم نفسه وهو داخل إئتلاف حكومي لا تأثير له فيه".

إيهود باراك يمثل بياسر عرفات أو العكس

* دور رموز البيت الأبيض والولايات المتحدة الأمريكية والدولية:

وهو لا يختلف عن الدور الإسرائيلي في تصدير صوت الشارع المختزل لحساب مصلحة القيادة والسياسة العامة الإسرائيلية، إلا في الصياغة لا أكثر لا أقل، وذلك بالقفز فوق عديد الأسئلة الحيوية، التي تعري تفاصيل العملية السلمية منها للمثال لا الحصر: ما موقف أحزاب الإئتلاف الحكومي في إسرائيل من الحقوق/القضايا الرئيسية للشعب الفللسطيني؟ وما مرجعية المفاوضات للمفاوض الإسرائيلي و الفلسطيني كذلك؟

وقد كان أحد إنتاجات هذا الدور مقال للرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلنتون في صحيفة النيويورك تايمز، بعنوان: "أكملوا عمل رابين"، ومدى إنعكاس ذلك التصدير، ومثاله الآخر: المساعي البريطانية لتعديل قانون ملاحقة مجرمي الحرب، والتي مرت مرور الكرام على ديبلوماسياتنا العربية، ومثاله المتوقع قريبا: خبر إنسحاب إسرائيل من النصف الشمالي المحتل من قرية الغجر المحتلة.

لذا سيظل في النهاية سؤال : إلى متى تظل العقلية العربية عموما والفلسطينية خصوصا في إطار (رد الفعل)، والذي وللأسف حتى ذلك الرد لذاك الفعل لا يعدو كونه تمنعا على إستحياء، ومنه لموافقة عمياء.

______________________________________________________________________________________________

رابط المقال على صفحات عرب ال48:
http://www.arabs48.com/?mod=articles&ID=75442

رابط المقال على صفحات المركز الفلسطيني للتوثيق و المعلومات:
http://www.malaf.info/?page=show_details&Id=7702&table=p_newsp&CatId=8

Sunday 24 October 2010

لا عدالة لأحياء يظلم -بضم الياء- شهداؤهم : في الحالة اللبنانية

ولأن إمبراطورية كروما لاتستطيع أن تحيا بلا أعداء ، فقد إلتزم بوليب ، هنتنغتون العصر الروماني ، البحث عن أعداء جدد لروما ، ولكن أين سيجد بوليب الأعداء؟ كل أعداء روما هزموا.
على روما إذن ، مهمة صياغة عالم جديد من خلال تعميم ثقافة روما وحضارتها وقيمها ، بهدف تهذيبه و إخضاعه ، وهنا إزدواج:

1.تهذيب العالم ، مهمة روما الحضارية .
2.احتلال العالم وتملكه ، مهمة روما السياسية"

نصري الصايغ

___________________________________________________

وقفات ذات مدلول :

- في السابع من ديسمبر /كانون أول عام 1987 ، طرج في إجتماع الجمعية العمومية للأمم المتحدة ، مسودة القرار رقم 42/159 ، للتصويت ، و الذي يقدم تعريفا عالميا معتمدا "للإرهاب" ، وقد صوتت جميع الدول الحاضرة بالموافقة ماعدا دولتان إثنتان : الولايات المتحدة الأمريكية و إسرائيل، وقد ورد في إعتراض ممثلي الدولتين أن التعريف المطروح للإرهاب في صيغته الأممية لم يتناول "المقاومة" باعتبارها صورة من صور الإرهاب .
وليس خافيا أن كلا الكيانين الأمريكي و الإسرائيلي هما كيانات استيطانية ، لذا فمن المنطقي أن يجمعهما الرفض لحق المقاومة الشرعي.
- في أعقاب احداث الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول 2001، جمعت الإدارة الأمريكية العديد من أبواقها الإعلامية و الأكاديمية و السياسية للقيام بمهمة بوليب هذا الزمان  ، و اتمام الشق الأول من واجب روما ، وكان من تلك الجوفة  : برنارد لويس المؤرخ الذائع الصيت صاحب التزويرات التاريخية ، و التي قدم لها أول من قدم مجلة "الكومنتاري" الصهيونية ، وفؤاد عجمي صاحب الكتاب الشهير "المأزق العربي":
The Arab Predicament
والذي كان من أبرز المدافعين عن جرائم سجن أبو غريب، و الذي أصبح على رأس أكبر جامعة أمريكية في الشرق الأوسط في العراق عميدا لها ، و أخيرا وليس آخرا ، فريد زكريا الإعلامي الشهير ، رئيس تحرير النيوزويك ، ومحرر أحد أهم البرامج على شبكة السي إن إن الأمريكية صاحب كتاب "عالم ما بعد امريكا" :
The Post American World
وقد خرج علينا ذلك الأخير ، في تصريح له لقناة اليورو نيوز مطلع هذا العام ، بأن أحد أهم أولويات الإدارة الأمريكية فيما يتعلق بالشرق الأوسط و المنطقة العربية –بغض النظر عن لونها-  أن تخلق أرضية تجمع الدول العربية و الكيان الإسرائيلي على عديد الأصعدة  كالتالي :

1.ضد الدور الإيراني و الحق الإيراني المشروع للقوة ، و الذي لا يعيبه ابدا أن تنتقده الدول العربية الغارقة في التبعية و الضعف.
2.اتهام المقاومة بالتقوي بالخارج و العمل على زعزعة الممثل الوطني للدولة المدنية وهي تهمة لها مظهران إثنان الأول في فلسطين : حماس و التي سرعان ماتتناسى العقلية العربية التابعة ، و العالم الغربي أن حماس بأبجديات الديموقراطية المستوردة حصريا وأيضا كما تقول صناديق الإقتراع هي صوت الديموقراطي و الذي لا تشفع له شفافيته في شيء مالم تأت بالتبعية للولايات المتحدة الأمريكية ، و المظهر الثاني في لبنان وهو ماتحاول الولايات المتحدة وممثلوها من أنظمة عربية تعليبه بأن المقاومة خروج عن السيادة و الوحدة الوطنية.


مما لا شك فيه أن هكذا خطاب ، لا يستند على المنطق الطوباوي للخطاب ، ونموذج نقله خطيا : (مرسل – رسالة – متلقي) ، وإنما واستنادا لنظرية الخطاب وعلم الدلالات ، فالخطاب يتم تشفيره و إعادة تفكيكه بين المرسل و المتلقي ، حيث يقرؤها الأخير خطابا "مفهوما" ضمن النسق المعرفي الخاص به ، و التي يعاد ترتيب تفاصيل ميدانه بما يتناسب مع أغراض المرسل و الذي هو عادة يحمل من عناصر القوة و السيطرة إعلاميا و سياسيا و فكريا الكثير ، موظفا لذلك الكثير مما نحمله من إدانات مسبقة وموروثة ، وبراءات مسبقة –أيضا- وفق اصطفافاتنا القبلية و الأيديولوجية ، وسطوة عوامل تتحدث باسم السماء و تعطل العقل و المقاربة الموضوعية.
لبنان الذي تقاسمت 18 طائفة – أو يزيد- الرمز و الأرض فيه ، وأثخنته حربا ، قسمت فيها بيروت التي لا تقبل القسمة إلا على المستحيل ، لبيروت غربية وشرقية.
فإذا كانت الحرب اللبنانية  75- 1990 يجري تصويرها "في الخطاب المهيمن و الكابت للذاكرة على شكل "حرب الآخرين" ، أو على نحو مخفف أكثر ، حربا "في سبيل الأخرين" ، وبهذه العملية يتكثف فقدان الذاكرة " ، فما أحوجنا الآن لقراءة متحررة لتلك الذاكرة المغتصبة ، و المعطوبة ، ليتسع أمامنا افق النظر ، محيطا لما يحاق لهذه المنطقة ، نظرة تعلو قليلا للتذكرة و للموضوعية فوق أفق السياج الحدودي للأرض اللبنانية المحررة في ال 2001 ، ولنكتشف اكتشافا غير جديد ، بأن لبنان دولة من دول التماس – بحسب تصنيف الرئيس الإسرائيلي شيمون بيريس في كتابه الشرق الأوسط الجديد -  ، التي يخشى تعميم فكرة إتحاد : الدولة – المقاومة (ليس بمنطقها الميداني إنما بأسسها الإجتماعية ومنظومتها الفكرية ) – التحرير فيها لما في ذلك من خطر على الكيان الإسرائيلي، الرافض للمقاومة كحق أصيل للشعوب في الدفاع عن أرضها وكرامتها و يعتبر ذلك صنفا من صنوف الإرهاب ، لذا كان من الطبيعي و إعتمادا على العناصر السابقة ، تصدير المقاومة لا إرهابا ، بل كأنها خروج على الشرعية الدولية ، والدولة المدنية  ، رديفا للرفض الأمريكي و الإسرائيلي لحق المقاومة و إن كان تحت قناع كوسيلة تبررها الغاية  ، لذا كانت الحاجة للإنتقال لتفاصيل الداخل اللبناني :

حيث إنطلقت تجربة المقاومة الإسلامية اللبنانية في إتجاه واحد ، ألا وهو الحدود اللبنانية ، فأصبحت تجربة متشبعة في لبنانيتها حتى التخوم ، وليس تجربة غارقة في طائفيتها حتى الداخل ، فالمقاومة لم تستعمل سلاحها في الحرب اللبنانية ، فيما إستجمعت القوى اللبنانية كل المحرمات : (الطائفية / الإستخبارات / الوصاية / الفساد / الطائفية) لثبت أقدامها .

الحكيم (؟؟؟)ولا تسأل كيف.

يعلو هنا صوت يقول : التهمة التشيع !
حسنا ومتى كانت المقامات اللبنانية علمانية؟
أوليست المحاصصة الطائفية اللبنانية وبنيانها العشريناتي من هذا القرن مدسترا؟ بل ويؤسس للطائفية؟
في ذات الوقت ألم يكن التحرير خالصا في لبنانيته ، ولم يكن على وزن "بيروت شرقية وبيروت غربية" ن ألم يكن تحريرا لا لإقتسام السلطة في الداخل ثمنا لتمدد الداخل للخارج حتى الحدود؟
حتى التحرير لم يوظف كذريعة لأغلبية تمثيلية سياسيا ، يتوارثها الأبناء و الزوجات ، إن المقاومة بنسبها التمثيلية برلمانيا أقامت علاقات صحية بين نقيضين : الدولة ومؤسساتها ، و المقاومة ومستلزماتها.

يطلع علينا صوت آخر : هي ذراع إيرانية و/أو سورية!
حسنا ، فلنقر بما تقر به علوم السياسة الإنسانية ، أو علوم المصلحة البراغماتية – كما أفضل تسميتها- ، إن الفاصل بين مملكة افلاطون الطوباوية و الأرض ، هو أن طهرانيتها رذيلة في العلوم السياسية الميكافيلية ، وكذا المقاومة كأحد فصول العملية السياسية ، فالتحالفات لتحقيق الأهاف ليست عورة في السياسة ، فهي على الأقل قدمت تحريرا وورقة ضغط وعنصر موازنة شهد له العام 2006 ، التحرير كان بالغ اللبنانية ، فلم يحرر جولانا ولم ولن يمنع عقوبات.
إنتهت مهمة المقاومة ، حررت الأرض ، إستعادت الأسرى ، كسرت الأسطورة ، كل ذلك مقابل تولي الأسرة الدولية البت في مصير مزارع شبعا ، و التي يمتنع السوريون عن كامل لبننتها.

إن محاولات تخوين المقاومة  ، ماهي إلا تجويف للإطار الوطني لها ، وبراغماتيه الحربية ، بالقفز فوق الإنتصار و التحرير و الزهد الداخل ، والتعامي عن تاريخ العقلية السياسية الطائفية في لبنان ، و التي برهنت تجاربها منذ عقود ألا مقدس لها ، فهي لا تحمي أحدا من أبنائها ، فكيف ستحافظ على وطن ، كيف يمكننا نسيان "السبت الأسود" و "المردة" و المسلخ و الكرنتينا وروجيه تمرز وإنتكاسة مشروع إعادة البناء و الإعمار ، وما فصله جورج قرم ، وهنري إده ، و الوعد المشهور: "سندهش العالم" ، وتساميه.
إن إسرائيل تدعي قداسة السلاح ، و إن كان ذلك كذلك ، فماذا عسانا أن نقول عن سلاح المقاومة و بالذات بعد 1992 مع إنتهاء الحرب اللبنانية ، و عام 2000 ، أمن المنطقي أن تصبح المقاومة "يوسف يا أبي".
أما عن الداخل اللبناني ، فبعيدا عن التساؤل المنطقي ، مامصلحة المقاومة  في الإغتيال ، أي إغتيال ؟

فلدى مواجهة الفكر / الثقافة السياسية الداخلية الطائفية ، يطلب منها هي فقط تجنيب الطائفية ك"شذوذ" حيوي لديمومة القاعدة ، في بلد المأسسة الطائفية ، وحتى إن كان فالمقاومة هي نتاج البراغماتية السياسية ، و الوطنية الجامعة بكل تياراتها وطوائفها التي إتسعت لها حدود لبنان في أيار 2000.
وفعلا كما قال الحكيم (؟؟؟) سمير جعجع ، ولأول مرة : لاعدالة لأحياء يظلم –بضم الياء- شهداؤهم.    

الميركافا راكعة

الهوامش:
1. رابط المقال على موقع الهيئة الوطنية للدفاع عن حقوق الشعب الفلسطينيك
http://www.palthawabet.org/ar/newsDetails.php?newsId=437&classId=15&page=1&Next=1

Friday 15 October 2010

من أوراقي : في الكتابة

في الكتابة..
أقول لنفسي...




عندما تتمنطق قلمك لتخط حروفا على ورق ، تذكر ، أنت تحاور ذاتك ، تحاكمها ، تدافع عنها ، تتهمها ، في العلن ، تنفصل عنها ماديا لتتحد معها كتابيا ، في عالم تتحاور فيه مع ذواتك ، لا لتستمع  إليهم بقدر ما يستمعوا هم إلى بعضهم ، أنت تعيد خلقهم لا لتعايشهم بل ليتعايشوك ويتمردوا عليك.
الكتابة هي "حالة حوار" ، قد تتجسد شخوصا انتقلوا من حبرية عالم الورق إلى ميتافيزيقيا عالم الإنسان ، لتراهم وتسمعهم ، يحاورونك..يرافقونك ...يجادلونك..أتذكر أنني إشتممتهم كثيرا حولي ورأيتهم ، وأعلم أنني لا أتوهم.
أن تكتب أي أن تتعدد في الأبعاد ، أن تتناسخ ، فتصبح هنا وهناك ، بداية ونهاية ، وأن تكون بين بين ، منفى ووطن . الكتابة هي "مرآوية" ناطقة ومتمردة وثائرة تعري "مايجب" لا فقط "ماهو".
أن تكتب في زمن العار و الفساد والقسوة والنهار المهزوم بالظلمة ، أي ألا تبشر بنصر محتوم ، ولافرح مخادع ، في زمن تعليب الخدر . أن تكتب في زمن "مآخاة النفط للدم و الدولار" أي أن ترفض وتتمرد ، أن ترفض الكتابة الساخرة ، وأبجديات الإستسهال الثقافي . أن تكتب في زمن العرايا وتشيؤ الإنسان أي أن توقظ المتلقي العائم في الزوايا الغبارية ، أن تكسر الرابط بين "الأغلبية" و "الصمت" ، ألا تهاب المفردات السماوية ولا الأرضية. أن تكتب في هذا الزمان العربي الفاحش العورة يعني أن تكون فضائحيا بامتياز.
في البلاد ، بلادنا المسربلة بمحيطات جهل وغيبية ، وفي مدار القاريء الذي  يحارب الأمية التعليمية والأمية الثقافية ، و الإعلام الإستهلاكي وقبلته الكرش و الكرسي ، لتهب عليه بعدها ضبابات الغيبية و التكفير بتهمة التفكير واللاهوتية الصنمية التي أصبحت زادا يوميا معاشا ، يغرقنا ونتساءل "هل من مزيد" حمدا على المكروه..ولا يحمد على مكروه سواه.
في تلك البلاد ، بلادنا ن ترد تهمة "النخبوية" على اصحابها ، فالمناداة باحتكام الخطاب الفكري على قياس المتلقي ، إنما هي دعوة إنهزامية لعصر الإستسهال المعرفي المعلب ، وأستسلاما لسطحية الوعي بمزيد من التسطيح ، بحجة التبسيط الفكري على القاريء ، ذلك القاريء الذي استسلم لإستلابه اجتماعيا وسياسيا وقرر أن يطالب الكاتب ما عليه هو من واجب التفكيك و المساءلة و النقد، فهو هاهنا يعمد لسياسة التوصيل العقلي ، ألسنا في عصر الوجبات السريعة؟ أليس القاريء دوما على حق باعتبار أنه زبون في عصر العولمة و الفكر منتج..ويحيا الإستهلاك وما أجمل أن يكون استهلاكا استسهاليا.
أليس في توزيع الأضواء على ارفف مكتباتنا مايعري الكثير من تكاسلنا وتثاقفنا؟
قال لي أبي يوما: الكتاب الذي يفكر بالنيابة عنك ، لا حاجة لك لقراءته.
إن قراءة كتاب  تاركا إياي في حالة من المساءلة ، و الدأب لتفكيك الرمز و الأسلوب  و الفكرة و النص و التأويل ، إنما هي حالة من الشبق المعرفي الذي يحول القاريء من تلقي الكتاب، للمشاركة فيه ، فيغدو محاورا ويتحول الكتاب حوارا ، بما في ذلك من نهم معرفي لا ينتهي ، وحالة من التحدي والإرتقاء بالذات ، تتحول حينها الأنشطة المعرفية من مجرد سلعة رفاهية في مجتمع يلهث بحثا عن أقل مستويات المعيشة الكريمة ، إلى أساس لا يقل أهمية عن الغذاء و الصحة و العمل ، وهو ما يفصل بين المجتمع الإنساني – الأرقى  و المجتمع الحيواني- الأدنى : الفكر.
لذا أعلنها هاهنا : سعيد أنا بنخبوية كتاباتي ، التي تحررني من القاريء الكسول و المتثاقف ، و أعلن وقوفي أمام عقلية : إركب الموجة ، متمردا ورافضا وفضائحيا مقاوما ، لثقافة السطح ، باحثا عن مفكري العمق.
ولا أجد بدا من تذكر مقولة الكواكبي :
إن الإستبداد و العلم ضدان متغالبان ، فكل سلطة مستبدة (دينية،سياسية،إجتماعية، ثقافية) تسعى جهدها لإطفاء نور العلم وحصر الرعية في حالك الجهل ، وإن العلماء – الحكماء الذين ينبتون أحيانا من مضايق صخور الإستبداد يسعون جهدهم في تنوير افكار الناس.



photo by Hanan Mahmoud

Friday 8 October 2010

في نقد النوسطالجيا : (3) : في الفكر : (5) : العقل و النقل



لدى الحديث عن الجدلية القائمة بين العقل و النقل وكراسيها الموسيقية في الفكر الإسلامي ، يتوجب علينا وكبداية التوقف على البعض من الآراء المؤسسة للعلاقة بين النقل و العقل ، وإنعكاسها على الإتباع و الإبداع في الفكر الإسلامي ، وهي للطبري و ابن حزم ومن ثم إبن تيمية :

أولا : الطبري حيث يقول:
" تأويل جميع آي القرآن على أوجه ثلاث:
1.أحدهما لا سبيل للوصول إليه ، وهو الذي استأثر الله بعلمه ، وحجب علمه عن جميع خلقه : كالروح و المصير ...إلخ،.
2.والوجه الثاني هو ما خص به الله علم تأويليه لنبيه الكريم صلى الله عليه وسلم ، من دون سائر أمته (وهذا مما يحتاج إليه الناس ، لكن لا سبيل ‘ليه إلا ببيان الرسول)،
3.والثالث ماكان علمه عند أهل اللسان الذي نزل به القرآن ، وذلك من علم تأويل عربيته واعرابه ، ولا توصل إلى علم ذلك ، إلا من قبلهم" .
وهنا تتضح حدود القبول و الموافقة و السماح بالتأويل ، حيث يجيبنا الطبري ، على : من هو المؤول؟ :
1."هو الأوضح حجة في ما تأول وفسر ، مما كان تأويله إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ، دون سائر امته ، من أخبار ثابتة عنه ، إما من وجه النقل المستفيض ، أو من وجه الدلالة المنصوبة على صحته "
2.وهو الأوضح برهانا فيما ترجم وبين من ذلك ، مما كان مدركا علمه من جهة اللسان ، إما بالشواهد من أشعارهم السائرة ، وإما من منطقهم ولغاتهم المستفيضة المعروفة"
3.وهو " الأكثر تطابقا في ما تأول وفسر مع أقوال السلف من الصحابة و الأئمة ، و الخلف من التابعين ، وعلماء الأمة ".
"وماكان من تأويل آي القرآن الكريم الذي لا يدرك علمه إلا بنص بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو بنصبه الدلالة عليه فغير جائز لأحد القيل فيه برأيه ، و إن أصاب الحق فيه ، فمخطيء فيما كان من فعله بقيله برأيه ، ولأن إصابته ليست إصابة موقن أنه محق ، و إنما هي إصابة خارص وظان . والقائل في دين الله بالظن ، قائل على الله مالم يعلم ".
الطبري : جامع البيان عن تأويل آي القرآن : الجزء الأول ص 35-45

وثانيا :  ابن حزم ، فالنص لديه "هو اللفظ الوارد في القرآن و السنة ، مبينا لأحكام الأشياء ومراتبها – وهو الظاهر وهو ما يقتضيه اللفظ في اللغة المنطوق بها "
رسائل ابن حزم الأندلسي – تحقيق د.إحسان عباس ، المؤسسة العربية للدراسات و النشر ، الجزء الرابع  ص 415
والتقليد لدى ابن حزم لا يخرج عن كونه بدعة حدثت "في القرن الرابع المذموم على سان الرسول "*1 ، حيث لا "سبيل لوجود رجل في القرون الثلاثة المتقدمة ، قلد صاحبا أو تابعا أو إماما أخذ عنه في جميع قوله ، فأخذه كما هو وتدين به وأفتى به الناس".
 رسائل ابن حزم الأندلسي – تحقيق د.إحسان عباس ، المؤسسة العربية للدراسات و النشر، الجزء الثالث  - ص 166 – 167.
أما ثالثا فلدى ابن تيمية ، كانت "البدعة" بالنسبة إليه بكل ما فيها من ابداع وتطوير وتحديث أو حتى مغايرة ، إشتقاقا أو ترادفا عن ومن "الكفر" ، "فمن يعارض الكتاب و السنة ]وكأن "البدعة" تستلزم المعارضة وجوديا أو ثبوتيا*2 [ بالعقل ، فإن قوله من أقوال هؤلاء الضّلال ، وهؤلاء الذين يعارضون الكتاب و السنة بما يسمونه عقليات من الكلاميات و الفلسفيات ونحو ذلك ، إنما يبنون أمرهم في ذلك على أقوال مشتبهة مجملة ، تحتمل معاني متعددة ، يكون ما فيها من الإشتباه و الإلتباس ثم يعارضون بما فيها من الباطل نصوص الأنبياء وهذا منشأ ضلال من ضل من الأمم قبلنا وهو منشأ البدع".
"فعلم الكلام مثلا لم يذمه الأئمة لحدوث ألفاظه ، بل ذموه لإشتماله على معان مخالفة للكتاب و السنة ، وكل ماخالف الكتاب و السنة فهو باطل قطعا ، ذلك أن المعاني الصحيحة ثابتة فيهما".
درء تعارض العقل و النقل ، ابن تيمية تحقيق محمد رشاد سالم ، مطبعة دار الكتب ، الجزء الأول ص 190 – 209 – 232.
*************************************
تؤسس هذه المقاربات – وإن إدعت العكس خطابيا – لنوع من الكهنوتية التي رفضها ويرفضها الدين الإسلامي وتاريخه يشهد ، وذلك بما تقطع به من ثبوتية تعطيل العقل لصالح النقل ، شارحة لنا الرفض "الإسمنتي" المطلق لأي مقاربة تأويلية تؤسس لها عبارة : (النص الديني إلهي التنزيل إنساني التأويل) ، قاطعة الطريق على أي مقاربات للنص الديني ، باعتبار تاريخيته أو حتى "ظاهرية القرآن"*3 ، وطبعا أدى ذلك إلى :
1.رفض أي مقاربة أو قياس للمعرفة الدينية / النصية من خارج النص متجسدا في ثبوتية نقلية تغفل تفاصيل الزمان و المكان و بالتالي تعطيل إمكانية القياس التاريخي للتفاصيل الدينية / النصية وذلك اساس مناسبة هذا الدين لكل زمان ومكان : ديناميكية العقل : عقل الآن هنا.
2.اعتبار أي محاولة للمقاربة بين العقل و النقل ، تهديدا وجوديا ، ليس للمعرفة ولا النص فقط ، بل للجماعة و رباطها العضوي ، وقد انعكس ذلك دوما في الربط بين الأيديولوجية الدينية و العقل الرقابي مستغلا جانبه السلطوي ، مما لا يفسر الحاجة الأيديولوجية الدائمة للسلطة وسلاحها الرقابي ، وذلك متأصل في العقل الأيديولوجي – النوسطالجي ، مثال ذلك ما نادى به "أبو حامد الغزالي" من ضرب المختلف بالقهر لأن ما به إنما هو "مس شيطاني" لا شفاء منه بالمحاججة و الحوار في كتابه الشهير : القسطاس المستقيم .*4.
إلا أنه ولأي قاريء للتاريخ ، وبرصد مسار "الإبداع"، بمنطقها اللغوي و ليس الديني ، يمكن القول أن تقاطع  هاذين المنطقين تاريخيا  ، هو الأكثر إنتاجا وقيمة في الفكر الإسلامي على إمتداده ، و إن تجلت فيه الشبقية السلطوية وصورها الرقابية و التي ارتقت من مجرد المنع إلى القتل  ـ بتهمة الإبداع بمفهوم ابن تيمية ، ومن نتاج تلك التقاطعات كان إرث المعتزلة و الصوفية وابن رشد الذي كان ضحية اتهام بالتهافت لحساب "الإقتران" لدى الغزالي الذي نفى مفهوم "السببية الطبيعية" كامتداد لتيارات "الجبرية" التي أهدرت الحرية الإنسانية ، كنظرية "الكسب" الأشعرية ، كلها تجليات تاريخية  للتعطيل الأيديولوجي لملكة التفكر الإنسانية/ فردانيا  أمام قدرة النقل السلطوية/جماعيا.


التأسيس للنقل لا العقل :
تحولت مقايسة حجة الفقيه وعلمه ، لا بالعقل كمكون ديناميكي (تفكيكا وتركيبا) بل بالعلم كمكون إحاطي "بما تقدمه من الآثار"*5 ، وهم فقهاء التابعين ، لذا فالعلم حينها لايلزم بصفته محركا/منتجا ، إنما مثبتا / مقلدا ، زحزار الشافعي ومحمد بن الحسن حول مالك بن أنس وأبي حنيفة ، والأفقه منهما وهو مالك لأنه الأعلم بالقراآن و السنة وبأقوال الصحابة المتقدمين ، أي أنه "الأكثر إتباعا"*6 أو "الأعلم بسنة ماضيه"*7.

العقل / النقل والتاريخ:
مما سبق يبدو لزاما علينا لدى أي مقاربة تاريخية ، أن نميز بين تعبيرين : (الثقافة الإسلامية) و (الثقافة التي سادت في الإسلام) بناءا على علاقتهم بمفهوم (العقل الإسلامي) كما سيرد تباعا ، فالتعبير الأول هو نتاج (العقل/ النقل) و العلاقة الجدلية بينهما ، مهما كانت درجة التأويل بين الإنعدام و الإكتمال ، وأما التعبير الثاني فلكلمة (إسلام) فيه هاهنا -وعلى عكس التعبير الأول- مدلولا زمانيا ومكانيا مركبا يتحدد بعلاقة مع  طرف / أطراف أخرى داخل نسق ثقافي ، قائم على علاقة (العقل / النقل) ، ومن ثم تلافحا فكريا وثقافيا وحضاريا مع الآخر / الآخرين ، لذا كان العقل السياسي الإسلامي – كما الإجتماعي – في ذلك النسق إنما هو تكوين تراكمي وليس تكوينا صلدا مصمتا ثابتا مقلدا ، وهذا هو الفرق بين الفكر و الأيديولوجيا.
لذا فحينما طلع علينا أحد كتّاب التيار الإسلامي قائلا :
"ليس هناك إسلام تقدمي و آخر رجعي وليس هناك اسلام ثوري و آخر إستسلامي ، وليس هناك إسلام سياسي و آخر إجتماعي ، أو إسلام سلاطين وآخر للجماهير ، هناك إسلام واحد ، كتاب واحد أنزله الله على رسوله ، وبلغة رسوله إلى الناس"*8 ]وهذه صورة أخرى من التوحيد الأيديولوجي بين الفكر و الدين : الكاتب[
ولكن ولأن الإدعاء السابق – بعيدا عن طوباويته وعموميته الزئبقية – يناقضه التاريخ الإسلامي ، الذي شهد عديد الفرق و التيارات التي تعددت أسباب ظهورها بين السياسة و الإجتماعية و الإقتصادية وحتى الأيديولوجية ، إلا أنه وبجانب تلك العوامل كان للإنفتاح على العقل بإختلافه وإعماله في فهم وتأويل النصوص ، عميق الأثر في ظهور تلك التيارات و الفرق ، وهو ذات السبب الذي جعل كاتبنا السابق يقول في موضع آخر من نفس المصدر :
"افتح أي صفحة من صفحات التاريخ الإسلامي ستجدها ناصعة في كل مرحلة مكتوبة بفصيح اللسان وصريح العبارة : كما تكونون يكون دينكم"*9.
   لذا فمفهوم (العقل الإسلامي) المرتبط شرطيا –بشكل تأسيسي- بالتعبيرين السابقين ، وبتفعيل هذا الإرث المغّلب للنقل على حساب العقل ، إنما يتناقض مع مفهوم العقل – أي عقل ، الذي يتأتى إلى حيزه الوجودي الفاعل و المؤثر  بالتراكم الغير إنتقائي -  للتجربة الإنسانية و المعرفة التي تؤسس لها العلاقة مع الذات /الآخر / المحيط ـ تلك التجربة التي يحركها الشك و الملاحظة وهما ملكتان يملكهما العقل الإنساني الحر و المتحرر من التواترات و الإرث النقلي.
وبربط ذلك العقل بالأيديولوجيا / الثيولوجيا في حالتنا هذه ، وبالذات أنها (خاتم الرسالات) والمنهج الذي لم ينطق عن الهوى ، ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، مما ينسف العنصر الأساسي و المكون للعقل وهو النسبية لصالح الإرتباط بالإطلاق السماوي.
إن تعطيل العقل لصالح النقل ، ينتهي بالتوحيد بين الإنساني/النسبي  و الإلهي/المطلق ، ويتجلى ذلك بوضوح في الكثير من الإجراءات الصنمية  و التقديسية لعقول لا تعدو أن تكون إنسانية – مثلنا- ، سرعان ما أصبح إدعاءا فوقيا/رأسيا لا يقبل المساءلة ، ويدعي القدرة الإستثنائية الكهنوتية بالقدرة على الوصول للقصد الإلهي ، بل وحمايته من كل تهديد .*10


يبدو في النهاية أن تعبير (الثقافة السائدة في الإسلام) ، ونقض مفهوم (العقل الإسلامي) لإستحالة ترادف العقل النسبي مع السماوي المطلق ، إنما يؤسسان للحاجة الوجودية لل(العقل السائد في الإسلام)  وذلك يجعل من الضرورة :
1.وجود علاقة سيادية ، ليست بالمنطق الأيديولوجي – السلطوي للكملة ، باستحواذ الصواب و العقل السجالي *11، إنما علاقة سيادية قائمة على الفاعلية الإجتماعية و السياسية معرفيا وحضاريا وثقافيا ، وذلك نتيجة للتلاقي و الحوار تحت قاعدة (الإختلاف حق إنساني مطلق و أصيل ، لأن العقل إنما هو وجه من وجوه الفردانية الإنسانية ، فالإنسان إمكان لا يعرف المستحيل ولا التقليد جدبا) ، ذلك ينقضه الرفض الجهوي و/أو المطلق و إستحواذ الإنسانية معيارا أيديولوجيا.
2.الإرتباط التكويني بعامل الزمان و المكان ، إنما يجعل (العقل) حينها إنما هو علاقة تجديد و إبداع ، وكسر للسائد ضمن إطار (الآن – هنا) ، طمعا في الإرتقاء للأفق الحضاري و الإنساني ككل وليس بمنطق الإنفصال رأسيا.
فالإسلام و إن كان نصا واحدا إلا أنه متعدد الفهم و التطبيق و التجارب على النحو الذي يضمن بقائه مردودا يتنفس فيه الجمسع ويتلافحون ، وليس لأحد أن يحتكره وأن يدعي حقيقة فهمه و إستيعابه بل وتطبيقه والمراقبة على الآخرين ، وهي الفكرة الأساسية لتحرير مفهوم الدين من الاستغلال و الإستبداد باسم الكرسي و الكرش.
يمكننا القول :
أن العلاقة المتوازنة بين سلطة العقل وسلطة النقل ، أو الإبداع و الإتباع من دون الإخلال بالحرية الفردانية إنسانيا في التفكير و المساءلة و التأويل ضمن حالة الموازنة ، إنما تجعل من الحاجة " للتمييز بين الإسلام باعتباره نصا دينيا مقدسا وبين التطبيق العملي للاسلام أو الخطاب الإسلامي " متحققة حيث أنه " في المجال السياسي ، فإن الخطاب الإسلامي هو عمليا "الفكر السياسي" للمسلمين  ، وليس الفكر السياسي الإسلامي ، هذه المقولة ضرورية جدا للمجتمعات و الجماعات و الدول ، حتى لا يعتقد أحد أن فهمه وممارسته للإسلام هي الإسلام بذاته ، ومن ثم شرعنه الاستبداد وتكريسه" بإسم الحفاظ على الأصل ، " باعتبار ذلك دينيا أو أمرا إلهيا "*12.
أنتج المسلمون على مدار التاريخ فكرا سياسيا ونماذج في الحكم و الإدارة *13 ،تعددت في تطبيقاتها وقربها أو ابتعادها عن الإسلام ، وعن العدل و التقدم و التخلف و الإستبداد ، وكان "الإسلام" حاضرا فيها جميعا باعتباره مصدرا للفهم و المرجعية التي تقبل الآخر كما تقبل الذات ، وتأثر المسلمون في ذلكبالبيئة الإجتماعية ببنيتها الإقتصادية و الثقافية والفكرية التي تشكلت بموجات الفكر و الفلسفة و التصوف و النهضة التي هبت على العالم أكمل ، فقد أعطى المسلمون للحضارات كما أخذوا منها و إقتبسوا من النماذج السياسية و الفكرية و الفلسفية كما أثروا فيها وأضافوا إليها جميعا ، كل ذلك تم بالعقل.
لتصبح في النهاية علاقة النقل بالعقل مفتاحا للإجابة على تساؤل هام :
لماذا كان رسولنا الكريم هو آخر الأنبياء ، وبعده إحتجبت السماء بالصمت لأجل غير مسمى؟


 الهوامش :

رابط المقال على صفحات عرب ال48:
http://www.arabs48.com/?mod=articles&ID=74434

1.وفي سنن الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "الخلافة في أمتي ثلاثون سنة ثم ملك بعد ذلك" . قال الراوي : أمسك مدة خلافة أبي بكر وخلافة عمر وخلافة عثمان وخلافة علي ، فالمجموع ثلاثون سنة. وعندما سئل : "إن بني أمية يزعمون أن الخلافة فيهم ، قال : كذب بنوا الزرقاء بل هم ملوك من شر الملوك".
2.مداخلة من الكاتب.
3.ذهب المفكر الإسلامي نصر حامد أبو زيد إلى مبدأ "تاريخية "النص الديني ضمن سياقه الزماني و المكاني وتفاصيله الزمانية و المكانية ، بينما تناول مالك ابن نبي النص الديني باعتباره ظاهرة تاريخية إجتماعية ، وهو نوع من الترادف لأطروحة أبو زيد من وجهة نظر الكاتب.
4. مثال آخر وجب ذكره وهو العلاقة الحيوية و الوجودية بين المعرفة و السلطة وعلاقة ذلك بالأيديولوجيا كانت الروايات بأن معاوية قد عمل على تحريف المقصود ببعض النصوص الدينية لتحويل إشاراتهم لعلي بن أبي طالب : راجع تاريخ الطبري.
5. طبقات الفقهاء - أبو اسحاق الشيرازي الشافعي - تحقيق إحسان عباس – دار الرائد العربي – ص 58.
6. المصدر السابق ص72
7.المصدر السابق ص 81.
8. القرآن و السلطان – فهمي هويدي – دار الشروق – ص7.
9. القرآن و السلطان – فهمي هويدي – دار الشروق – ص 45.
10. من ذلك كانت ردود الفعل على الكثير من الآراء و التصريحات الشبقية سلطويا منها القول بالأضرية الإبستمولوجية للحاكمية وما يستلزم ذلك من براءة كاذبة ، مثال ىخر موقف الشعرواي من هزيمة حزيران/يونيو67 ، وصلاته شكرا لله عليها و التي لم يتجرأ الكثيرون امام الأيديولوجيا ان يتخيلوا موقفه ، بل ولم يساءلوه ، وهو أيضا صاحب الموقف المبني على غير العلم ولا التخصص عندما طال علمه كل شيء بما فيه مناداته بختان الإناث وأن لا ضرر منه طبيا. أو التعدي على حرية الإبداع كما حدث من الشيخ الغزالي عندما قال : "إن عدتم عدنا" ، قاصدا رواية نجيب محفوظ – الرائعة- "أولاد حارتنا" ، و التي نالها حديثا إعتذارا خجولا ومراء بل وزئبقي من السيد الدكتور العوا ، قافزا على أقل رد للدين الإنساني ، بإسم الثيولوجيا، ووكالة السماء.
11. راجع الجزء السابع من سلسلة : في نقد النوسطالجيا (4): في الفكر(4) : العقل السجالي مظهر وجودي.
12.من مقال بعنوان : الديني و الإنساني في فهم الإسلام وتطبيقه – لإبراهيم غرايبة – جريدة الحياة العدد 17347 السبت 2 تشرين أول /أكتوبر 2010.
13.بحكم أن السياسة هي فن إدارة الإختلاف بحسب تعريف لوسون :
Contemporary Political science – Lawson – Third edition


Wednesday 22 September 2010

في الهوية

1.      الهوية هي حالة "سعي" لا يكتمل أبدا.
2.      الهوية لاتعود أبدا لنقطة الصفر.
3.      الهوية بالتراكم.
4.      الهوية هي الإحتواء و الوعي بحالة "سعي الذات للإكتمال".
5.      الهوية هي الإحتواء و الوعي بحالة "نقصان الذات الساعي للإكتمال".
6.      الهوية هي انثى ، لغة ، وطن ، لحن ...الهوية حاجة.
7.      الهوية هي اتصال و إنفصال مع وعن الآخر.
8.      الهوية ليست فيما يثبت بل فيما يتغير – أدونيس.
9.      الهوية لا تتطابق مع أي تجربة محسوسة – ليفي شتراوس.
10.  الهوية معنى لا تحتويه العبارة.
11.  الهوية تتجلى في "الإتجاه نحو" لا في "العودة إلى" – أدونيس.
12.  الهوية في غنى عن "الشذوذ الحيوي للقاعدة وجوديا".
13.  الهوية هي نص قابل للتأويل.
14.  الهوية هي حالة حوار مع الهرمينيوطيقا.
15.  الهوية هي حالة حوار مع الذات.
16.  الهوية منبع الفن المعبر ، وإنفصالها عنه.
17.  الهوية هي جدلية الإنسان مع "ماهو" و "ماسيكون"- أدونيس
18.  الهوية بإنغلاقها أمام الآخر ، تنغلق امام الأنا.
19.  إذا كان التخيل هو مرحلة متوسطة بين الحس و العقل ، فالهوية تخيل.
20.  الهوية أكبر من حدود المجاز وأكثر حرية من البيان.
21.  إذا كانت "الحقيقة هي اسم لكل لفظ أريد به ماوضع له ، ويقابلها المجاز وهو اسم لما أريد به غير ماوضع له ، ثم الصريح وهو ماظهر المراد به بينا زائدا ، وتقابله الكناية وهو مااستتر المراد به" كما قال الطبري ، فالهوية هي حقيقة مجازية صريحة تحمل من الكناية الكثير.
22.  الهوية معنى للتاريخ و تأريخ للمعنى.
23.  الهوية نص له قراءة و ألف تأويل.
24.  الهوية كما في الصوفية وجود ظاهر عارض ، ووجود باطن متأصل ، من دون القطيعة بينهما.
25.  الهوية معنى متغاير ، و المعنى هو مجال الهوية ، و الصورة مجال التغاير ، لذا فالهوية هي مركب المعنى والصورة ووحدتهما.
26.  الهوية هي التلافح بين لحظتين : بداية الخليقة ونهاية الخليقة ، في لحظة واحدة.
27.  إذا كان الكون يتمظهر للإنسانية في اللغة ن فالإنسانية تتمظهر في ديناميكية الهوية للكون.
28.  لاتوجد هوية محضة ، فالهوية قراءات متراكمة للكينونة.
29.  بين "الكينونة" و "الهوية" تتقلص مسافة "الذات".
30.  الهوية هي تجلي لا "حيادية" الإنسان وجوديا.
31.  الهوية كما "الحقيقة" في الصوفية : نسق العلاقة بين المعنى و الفكرة ، الباطن و الظاهر ، الإسم و الرسم.
32.  كما كانت المعتزلة بالنسبة للتيار السلفي /التقليدي حياة ، فالهوية بالنسبة للكينونة إحياء.
33.  إذا كان "لايوجد رمزية قبل الإنسان الذي يتكلم حتى و إن كانت قوة الرمز متجذرة بعمق في تعبيرية الكون" بحسب بول ريكور، فهل تكون الهوية حينئذ هي الرمزية المعبرة عن الإنسان وفردانيته؟
34.  و"إذا كانت اللغة ليست لذاتها و إنما لعالم تفتحه وتكتشفه ، فتأويل اللغة ليس متميزا أو مختلفا عن تأويل العالم" بحسب بول ريكور ، غذن فالهوية لغة ، و اللغة هوية.
35.   الهوية هي تعبير عن المسافة المعرفية و الجغرافية و الفكرية والإنسانية والأيديولوجية التي قطعتها الذات.
36.  الهوية ليست أيديولوجيا ، ومن تكون له الأيديولوجيا هوية هو افقر من أن يملك هوية .

Sunday 12 September 2010

في نقد النوسطالجيا (4) : في الفكر (3): العقل السجالي مشهد وجودي

تغرق الساحة الفكرية و الثقافية العربية في جدلية قاربت حدود "الجدلية الصنمية" و أزليتها ، إن لم تصبح كذلك بعد ، تلك هي جدلية العلاقة بين الحداثة و الأصالة ، و التي إنتهت إلى نتيجتين ظاهريتين تتبديان على سطح –وفقط سطح- المشهد العام :

1.شق المجتمع الثقافي و الفكري و تباعا الجمهوري إلى فريقين إثنين ، تجمعها علاقة وجودية / صراعية لا غير ، وتلك هي الصورة الغير محبذة من ثنائية العلاقة : الأنا و الآخر، وذلك لأنها تختصر الآخر والعلاقة به في صورة صراع بقاء ، وبما تستدعيه كلمة "بقاء" يتضح لنا أن فاعلية أي طرف تتبدى من تضاده مع الآخر ، فلا حداثة –بالأصل اللغوي – إلا بتحديث القديم ، ولا أصالة إلا بإنفصالها عن الحديث او المعاصر ، لذا فالعلاقة الصراعية بين الطرفين هي علاقة وجودية متى غاب طرف فقد الآخر حيزه الوجودي ، كل ذلك أسس للعقل السجالي كمنهج فكري ، وهو من الإستاتيكية أنه لا ينتج ولا بيدع لغياب الملافحة و التلاقي ، ويكتفي بالإجترار البيولوجي للتاريخ و الواقع – بالتوازي- سلاحا للبقاء.
2.إختصار مجمل المشهد الثقافي العربي في حالة الإنشقاق تلك ، و الحكم المختزل بغياب أي فرصة للتلاقي و من ثم الإنتاج ، وإن كان ذلك الإختزال ليس بخاف عن أي طرف كان (الحداثة بحكم أصل العلوم الفلسفية و الحضارة الشرقية ، و الأصالة بحكم منبت أدوات التواصل و الحضارة الإنسانية التقنية و المادية)، ولكن الإنجراف نحو معالجة ذلك الإختصار المجحف  ينسف الأسس الوجودية للفرق المتصارعة بإسم كلا الظاهرتين الإنسانيتين وتياراتهم المختلفة .

من المقولات التي تؤسس لحالة الصراع تلك و التي تؤجج لها والتي ينكرها أصحابها تارة و أحيانا ينادون بها ، كان القول بحتمية الصراع بين الحداثة و الإسلام و إطلاقه صراعا وجوديا ، مما يؤسس للقول بأن العلاقة بينهم لا و لن تقبل اي نوع من المهادنات أو التلاقي و التلافح بغض النظر عن مدى صحة ذلك القول ، كما أنها تلغي وتنكر أي مصداقية لأي محاولة لمد الجسور بإعتبارها تمردا أو إنهزاما.
وفي هذه المواجهة تنحو الدعوة للأصالة إلى توحيد نفسها مع الدين ، وفي المقابل تميل الحداثة لمطابقة ذاتها مع العلم ، وطبعا تنتج لنا تلك الثنائية الإتحادية المتقابلة التالي :

1.تطابق الهوية مع ذاتية الأنا الوجودية الأكثر قداسة وهي الدين (منبع القيمة الروحانية)، وبذلك ينخفض التراث إلى جانبه الديني .
2.تتطابق الحداثة مع الحضارة المادية وتمظهراتها ، فتنخفض الالمدنية إلى طابعها التقني الصلب .
وما يؤدي إليه ذلك من شيطنة الدولة المدنية الحديثة ورفضها جهويا وأيديولوجيا بدعوى إعتبارها بناءا ماديا تقنيا لايؤخذ إلا بالكلية ولا يرفض إلا بالكلية قافزين فوق ديناميكية التخليق بتاعا اإختلاف الخصوصيات الحضارية ، والفكر الشمولي الرفضوي هو نتيجة جدب عقلية التفكيك و إعادة التركيب والتخليق .
ويتبدى لنا ذلك واضحا خلال العديد من حوارات الفكر العربي :
(رسالة التوحيد والإسلام والنصرانية مع العلم و المدنية ) لمحمد عبده ، و (لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم) لشكيب أرسلان ، وغيرهم.

إن ذلك الإستقطاب المزدوج: رفض الحداثة –كمنتج غربي- بالجملة لتأكيد الذات ، وبالمقابل رفض الذات لتأكيد الحضارة و القابلية للإنصهار فيها ، جعل من "كل التركيبات النظرية العربية منذ النهضة إلى اليوم من إصلاحية دينية إلى قومية عربية ، لم تكن إلا محاولات للتقريب بينهما وتجاوزهما وإعادة عرضهما بشكل جديد على ضوء المعطيات الخاصة بكل حقبة ، وليس الإختلاف القائم داخل هذه الأيديولوجيات السياسية التوفيقية إلا نتيجة تغليب أحد العناصر على الأخرى" 1*.
وإن كانت الحداثة الغربية كمنتج جهوي يستلزم الرفض الأيديولوجي لإثبات الوجود ، هي نتاج بلورة منظومة فكرية سياسية تقوم على مفاهيم : الحرية ]فولتيير / كانط[ و التسامح ] لوك[ و المساواة ]روسو[ ، فكيف يمكن ان تخفى عملية الأدلجة الزائفة لتلك الأسس  - الحداثية للبعض والإنسانية في الأصل – وربطها الزائف بالنسق الغربي وكانها وليدة تلك الحضارة فقط؟؟ ولا تتأتى في أي صورة أخرى غير تلك ؟ ذلك من ناحية ، وأما من الأخرى فيخطيء من يعتقد بوجود إمكانية لخلق ثقافة إجتماعية – سياسية ذات أساس علمي –مادي محض ، منزوع عنها كل المطالب الروحية و التأملية و الأيديولوجية ، لتنتهي بها تطورا فيزيولوجيا ، أو كما قدمها كانط في نقده للعقل :
هل يوجد معرفة من النوع المستقل عن التجربة أو حتى الإنطباعات الحسية ؟*2

لذا فكما أنه من الخطأ نقد المعرفة الطبيعية و الفيزيائية بمنطق ديني / ثيولوجي / فقهي / لاهوتي ، فمن الخطأ كذلك نقد الفكر الديني من منطق البحث الطبيعي / المادي .


* العقل السجالي :
إن للرفض الجهوي كإثبات وجودي ، ولحالة الصدام المبني عليها و التي تؤسس لها علاقة " الإسلام لا يقبل الحداثة" ، تأثيرا على الثقافة العربية – التي يمثل الإسلام روحها- وكذلك الوعي العربي ، إذ تتبدى الكثير من آثاره الإنفصامية ، على خطابات النوسطالجيا وواقعهم ، وبالتالي تأثيرهم ، جاعلا من الكشف عن أحقية الإدعاء النوسطالجي بأن إنكار الحداثة هو شرط لتأكيد الذات – المختصرة في الدين- يتماهى في الأهمية مع الكشف – المقابل- عن تهافت القول بأن رفض الذات و إنكارها هو شرط قبول الحداثة و توطينها و الإندماج في الركب الحضاري الإنساني.
إلا أن قولا كالسابق ، لايخفى مايؤسس له من صورة القول و القول المقابل، وليس حتى الفعل ورد الفعل ، لمايمثلانه من ظواهر صوتية إستاتيكية كما الكهرباء الساكنة، وهو اساس العقل السجالي ، وهو العقل الذي انفصل عن الواقع ليصبح الحوار فيه بين الفكر و الفكر ، و ليس الالفكر و الواقع ، بكل ما تقتضيه تلك المواجهة من استحواذات طوباوية تصادر على غيرها  وتقفز عن الخصوصيات الحضارية و الظرفية الزمانية و المكانية للواقع المعاش ، و التي تمثل خط الفصل بين الفكرة و الواقع.
إن للعلاقة الرفضوية للنوسطالجيا مع أي قيمة حداثية على اساس جهوي ايديولوجي – وليس موضوعي- ، تجعل من التيارات الفكرية ومايقابلها ، أسيرة حالة الإستقطاب ، المنفصل عن الواقع ، مما يضعف تاثيراتها في المشهد الحياتي أو يؤدي لراديكاليته المفرطة ، لأن الجهد الأساسي حينها لذلك العقل السجالي ، ليس لخلق مساحات اللقاء و التلافح و الحوار والإختلاف ، إنما في مواجهة /الصراع مع التيار المختلف أيا كان ، تقاطعا ما أم لم يتقاطعا *3، وليس في مواجهة الواقع إنطلاقا من نقاط التلاقي والإتفاق بهدف التغيير، لذا تتبدى لهجة الاستنفار الأيديولوجي في الخطاب ، والتي تزداد في حال الأزمات ، ولكن أوليس الصدام و الرفض المطلق هو أزمة؟؟ أزمة إحتواء وحوار؟؟ وبالذات عندما تفرضها موازيين القوى؟ أوليست الحداثة – في كل تجلياتها- تهاجم أول ما تهاجم "الأصل التوحيدي" أو هكذا قيل؟
"لكن ما الغريب في الأمر ؟ أليس هذا هو حال الثقافة الشعبية في أي مكان عندما ترسم صورة عن الآخر في فترات الحروب ]صراع بقاء[ مثلا؟ مالغريب في التعميم السريع ، أو إسقاط المخاوف الدفينة و النقائض التي يخشاها المجموع على صورة الآخر ؟ ]كالدياثة و العمالة و انعدام الخلق و الجهل و الأدلجة المقابلة و المادية وغيرها من التوصيفات[ لا جديد . نعرف هذه الظاهرة العميقة الجذور في ثقافات كافة الشعوب ونراها تزداد قوة في مراحل الأزمات "*4  كما " تقيم هذه العقلية إدعاءاتها على اعتبار أن الجهل والغرائز والمعلومات الخاطئة والرغبة في التعميم السريع ، و الخوف من المجهول ، معطيات ثقافية جماهيرية قائمة وصلبة ، يتم التعامل معها ببساطة وتقبل من دون نقد ، خصوصا عند تشكيل صورة الآخر أو صورة المختلف عنا أو الغريب ]فما بالك ذاك المتصادم الوجودي مع الدين و أصله التوحيدي؟[ أما إذا كان الآخر هو في الوقت ذاته هو العدو فعندها عمم ولاحرج وحدث ولا حرج"*5 .
لذا سرعان ماينصب خطابيوا النوسطالجيا حينها أنفسهم متحدثين رسميين عن المجموع أو الأغلبية الصامتة مقدمين انفسهم بإسم (نحن) لا للتعظيم بقدر ما هو حضورا لقوة المجموع أو الأغلبية وبسطوة الأسئلة الإستنكارية.
 ومن مشاهد ذلك الاستنفار الأيديولوجي بإسم ال(نحن)  :

1.تشريع "العنف" دفاعا عن الأيديولوجيا/الثيولوجيا وليس الفكر :
 بداية من التكفير بكل صوره للتنميط و الأحكام المسبقة حتى التهكم و الإستهزاء و الشخصنة  و الاتهام بالجهالة و التفتيش في القلوب أو حتى التصنيف الرأسي للبشر، كل ذلك ابتعادا عن الواقع و انفصالا عنه و اتحادا بشخوص ليس لهم من الديمومة ما للأفكار.

2. إزدواجية التعامي و التصيد : إحدى صور الإنفصام :
التعامي عن جرائم ال(نحن) في حق ال(أنتم) أيا كان ، و التصيد لأخطاء ال(أنتم) وتجريمها وتغليظها ، وليست مشاهد إدعاء النوسطالجيا في بلادنا القهر و الظلم الطائفي إلا مشاهد كوميدية سوداء ، تصل حد التقمص السينيمائي المزمن ، منتهية بالواقع لحالة من التشكك الدائم ما بين الصواب و الخطأ من ناحية ، ومابين الإبتزاز العاطفي (داخليا وخارجيا)، و الذي أنتج في النهاية ردا لفعل ، للأسف إن لم يصبح مساويا بعد في المقدار، فإنه على الأقل من نفس الجنس ، لتسقط في النهاية حينها أغلب الحدود الفاصلة – أو تتماهى مع السقوط- بين الفاعل و المفعول به ، لتنتهي بالجميع شياطين بلا ملائكة.

3. منهجة الرفض الجهوي و التأسيس العلمي له :
ويتم ذلك بالإعتماد على الإجترار للتاريخ لأغراض فيزيولوجية بحتة لضمان البقاء الجمعي  في صورته الحيوية ، لا أكثر لا أقل منعا للتذرر و الفردانية ، وحفاظا على الرابط الأيدديولوجي الغير منتج في الكثير من الأحين ، بإسباغ شرعية علمية عليه ، بتوظيف عبارات من الميوعة الفكرية بظرفية الزمان و المكان الآنيين للواقع وبراغماتيته ،تأسس جميعها لحالات إنفصال الواقع عن المطلوب –وهو المفصول اصلا - ،  لدرجة أبعد من أن يتم تداركها ، بتحويل الأيديولوجيا إلى ثيولوجيا وقتل أي لقاء ، وذلك لأن "نقض الأساس المنهجي و الفكري و الفلسفي –لانقده- مقدمة اساسية في مراجعة معظم الدراسات حول الإسلام" *6.

4.الأدلجة الجزئية انتقائيا *7:
للكثير من المنتجات الثقافية والتي يتم في الأغلب الأعم إقتطاعها عن سياقها الكلي لتعليبها ترسا أيديولوجيا ، ويتم تتريسها كميا لا نوعيا ضمن ديباجة خطابية ذرائعية .

إن أحد أهم المنهجيات التي تقوم عليها عقلية النوسطالجيا – ورد فعلها- ، هي "الخلط المنهجي" ، أي أنه يخلط بين الأيديولوجيا و الثقافة ، أويخفض الثقافة إلى جملة الأفكار و الأعراف ، ولايميز بينها كنسق إجتماعي ، وبين المذاهب و الأيديولوجيات و الأفكار المتناقضة التي تعيش فيها وتتغذى منها ، ومنهم من يرفع الأيديولوجيا ، أو إحدى الأيديولوجيات إلى رتبة الثقافة ، فيستنتج من تناقضها تناقض ثقافة العرب وتهافتها" *8.
ومن هنا كان رفضنا لصيغة "العقل الإسلامي"*9 عقلا تاريخيا ، وطرح بديل له : "العقل السائد إسلاميا" ، و الإعتراف – كذلك – ب"الفن الإسلامي" فنا "إسلاميا" ولكنه ليس فنا "دينيا" *10 ،  حيث ان الإرتقاء ب"العقل الأيديولوجي" فيتحول  "ثيولوجيا"، يحول "العقل" حينها "نقلا"  ، وأسوأ  مايصيب التفكير الفلسفي هو إرجاع "المفهوم" إلى صورة ثابتة وراسخة  وتكاد تكون راسخة أيديولوجيا –بكل ماتحمله الأيديولوجيا من الامصداقية فكرية ونسبية النسبية - ، يجترها القياس التاريخي الإنتقائي ، فينحط حينها "العقل" إلى مفهوم "الدماغ" بالمنطق الفيزيولوجي الحيوي البحت و الذي لا يمكنه القياس خارج الجسد البشري مصدر الحياة.

العلاقة مع الواقع :
يتصل العقل السجالي مع الواقع من خلال نقطتين إثنتين :
1.الرفض الجهوي الشمولي ، الذي يرى في الواقع كتلة واحدة صلبة ومغلقة ، لا يمكن التعامل معها إلا بالرفض – المسوغ منهجيا مسبقا – بكل الفاظه : النقض – التكفير – المادية – المزايدة – العمالة وغيرها  ومن ثم إستدعى التبديل ، إن وجد "البديل" وعادة لا يوجد لغياب القدرة على التفكيك و إعادة التركيب، البديل القادر ليس فقط على الحوار مع الآخر بل على التفاعل مع واقع (الآن – هنا).
2.القياس الإختزالي للواقع ، و الذي غالبا ما يكون إجترارا ماضويا ، لا يعدو إلا أن يكون قياسا مبتورا للماضي – التقليد- ومماهاته المشلولة بالواقع، جاعلا العقل السجالي دائرا في فلكه الخاص و تاريخه الخاص ، مشتطا في الأحكام و الإستنتاجات بلا رقيب موضوعي واقعي.

واسباب إنفصال الفكر عن الواقع حينها :
1.يمكن لقضية ما أن تكون منطقية وصائبة كمتن عضوي واحد تتناسب مقدماتها مع نتائجها ، إلا أن ذلك لا يعني تطابقها مع واقع (الآن – هنا) ، لذا ومن الإدعاء الصحيح بصحة القضية ، يدعي البعض شرعية توجهه وملائمته ، لا لأمانة الطرح الموضوعي الواقعي ، بقدر إسباغ الشرعية على الفكر الأيديولوجي، فيتحول حينها الفكر إلى الأصل ، والواقع إلى الفرع ، الفرع الذي يتوجب عليه التكيف مع مقولات الفكر و التطابق معها ، وعلى الساحة الفكرية تتبدى لدى الكثير من شواهد هذا الفكر المنفصل عن الواقع :

- شعار (الإسلام هو الحل)*11 : وهو على وزن اقدم أحد أقدم الحيل الأيديولوجية وهي (رفع المصاحف على أسنة الرماح) ، طارحة حلا ثيولوجيا لا يمكن لأحد مسائلته ، من دون أن يفتح بابا للمزايدات و الشخصنة والعنف المقدس. وذلك الشعار يأخذ شرعيته من إحدى نقطتين الثيولوجيا و/أو التاريخ ، التاريخ الذي لم يكن ليصبح تاريخا مالم ينفصل عن واقع (الآن – هنا) .
إلا أن ذلك البديل لا يختلف إلا في الإتجاه عن البديل المقابل له وهو طرح : التنازل عن جميع الخصوصيات الحضارية و التاريخية للإلتحاق بركب الحضارة والحداثة.
2.تأثير الثقافة الغربية الحاضر بمنتهى السطوة و القوة و الوضوح في العالم الثالث ، يخلق في ذهن الناس صورا عن الحياة و الذات و المعنى مختلفة تمام الإختلاف عن الواقع المعاش ، وبالنظر للصورة المتواترة عن الحياة متحضرة والشروط الواقعية للوصول إلى ذلك ، يتضح لنا حينها مدى عمق حالة التناقض بينهما ، لتصبح حينها النظرة للمجتمع على إنه متخلف ومتأخر بكل تاريخه و قيمه وثقافته التي يتغنون بها وإغتنى بها تاريخه ، وهي العناصر التي وبعد كل هذا الإجترار الأيديولوجي لم تستطع ان توفر احترام الإنسان وحقه في الإختلاف و التميز بالإختيار.
لذا فالمثالية المفرطة ، وكل تجلياتها الأيديولوجية / الثيولوجية ، و إستحواذاتها و إنعكاساتها ، لا تتعارض مع الواقعية من ناحية ولا تجريبية من الناحية الأخرى أو حتى الذرائعية ، بل تستدعيهما ، لأنه إذا بقيت النظريات و الأفكار حبيسة العنتريات الخطابية ، والفكر المنفصل عن الواقع ، بعيدة عن الواقعية ومن ثم البرغماتية ، جاعلة المسافة بين الآن –هنا و المجتمع الأفضل للأنا و الآخر ، أكبر من أيديولوجيا الخطاب.
في النهاية :
الرؤية التفكيكية الواقعية ، هي التي تنقض العقل السجالي ، وهو مختلف تمام الإختلاف عن التعميم الأيديولوجي القائم على إيجاد وحدة وهمية منطلقة من سحب مفهوم الجزء على الكل بدعوى (بناء المفاهيم) ، ومصدر ذلك التعميم هو النظرة السلبية/النرجسية لجانب أحادي من التاريخ.
لذا فالرفض الجهوي و "إلقاء المسئولية على الإمبريالية أو الغرب بصفة عامة ، وبشكل مجرد ]تعليبي[ دون إظهار ترابط هذا الغرب ]ومنتجاته[ مع قوى و افكار و أنماط وسولك وعمل وممارسة محلية لا يقصد إلا إلى تعميم نزعة سديمية قومية مهمتها الأساسية التغطية على المسئوليات الفكرية و السياسية التي تكمن في قصور المناهج و الوسائل التي اتبعت لمحاربة الغرب و التخلص من سيطرته"*12.

فالتهرب من المسئولية الحضارية والتاريخية له العديد من الصيغ كتعليب الإتهامات والأحكام المبدئية و الرفض الجهوي ، و التي تعفي – أو هكذا يراد لها- من واجب التأمل و التفكر و التمحيص و التفكيك و التركيب ، لينحصر حينها التاريخ - تاريخنا إما عورة كاملة - عورتنا، أو حسنة بهية – حسنتنا ، أو العكس.

by Michel Zavrof

_________________________________________________________________________________________________
الهامش:
1.      إغتيال العقل – برهان غليون – المركز الثقافي العربي – المغرب – ص22
2.      Critique of Pure Reason, Emmanuel  kant, Penguins Classics , p 214
3.      وهذا من أسباب غياب تقنيات ال
Thinking tanks
في الأقطار العربية اللهم إلا تجربة مركز دراسات الوحدة العربية - بيروت
4.      طروحات عن النهضة المعاقة – د.عزمي بشارة – رياض الريس – بيروت – ص 109
5.      طروحات عن النهضة المعاقة – د.عزمي بشارة – رياض الريس – بيروت – ص108
6.      بناء المفاهيم – مجموعة من الباحثين – دار السلام- القاهرة ص61
7.      تمت الإشارة مسبقا لهذه النقطة بالتفصيل في جزء سابق من السلسلة.
8.      إغتيال العقل – برهان غليون – المركز الثقافي العربي – المغرب – ص48
9.      سيرد تفصيل هذه النقطة في جزء لاحق من السلسلة.
10.  مجلة "وجهات نظر" الشهرية – محمد المهدي - عدد 139 – ص34
11.  الإشارة هاهنا بالعموم و ليست لفريق بعينه ممن يتبنون ذلك الشعار الأيديولوجي وقصره على نموذجهم.
12.  إغتيال العقل – برهان غليون – المركز الثقافي العربي – ص57.