Wednesday 31 March 2010

في نقد النوسطالجيا : الخطاب


"لسنا أفضل من رسولنا الكريم الذي حاصره الكفار لثلاثة سنوات ، ليحاصروننا عشر سنوات "

"لسنا عبده أصنام ، فالحجر لدينا لا قيمة له ، وكما احترق منبر صلاح الدين واستبدلناه ، فإذا سقط الأقصى فنحن قادرون على بناء غيره "



كانت تلك العبارات الصادرة عن أحد أهم رموز الإسلام السياسي المعاصر و الذين يتصفون –كما يقال- بالاعتدال أو الوسطية ، الأمين العام للإتحاد العالمي لعلماء المسلمين ، الدكتور محمد سليم العوا .


وجب علي قبل البدء في مقالي هاهنا و الذي سيتناول مظاهر النوسطالجيا في الخطاب السياسي الإسلامي المعاصر ، أن أنوه القارئ قبل أن تأخذه حمية الدفاع عن السيد العوا وما يمثله ، أنني في هذا المقال وبالرغم من كمية الثقوب التي قدمها السيد العوا في كتبه وبالذات كتابه : في النظام السياسي للدولة الإسلامية و الذي تناول إجابة مقننة ل(كيف؟؟) وليس إجابة حضارية ل(لماذا؟؟) ، إلا أنني لا ولن أتحرك في إطار ذلك المنتج المخدر إنما هو نقاشي هو عن مظاهر الخطاب ، بما يمثله ذلك الخطاب من أداة تشكيل معرفة و من ثم سيطرة .

مقالي هاهنا يتناول تعاقبيا وباختصار مظاهر النوسطالجيا والخدر في الخطاب ، بعد تفكيكه وتحليله ، واستعراض المنهج الاستقرائي التاريخي الذي يعبر عنه ويخدمه ذاك الخطاب ، وأثره بالتراكم على الخريطة الإدراكية الجمعية للشعوب العربية من ناحية و تلك لل(الآخر) أيا كان ، وتأثير ذلك لدى أي تفاعل حضاري ، وسياسي وتاريخي وحتى اجتماعي .

إن أول ما يمكن للمراقب للساحة السياسية و الاجتماعية في بلادنا لدى تحليل الخطاب السياسي ولا أستثني من ذلك الخطاب العبارتين السابقتين ، غياب العامل الزمني ، بغض النظر عن مضمون الفكرة المنقولة من خلال ذلك الخطاب .

فمثلا عبارة كتلك الأولى من العبارات المشار إليها أعلاه تقارب ما بين وضعين مقاربة أقل ما يمكن وصفها مقاربة جوفاء ، توظف خطابا عاطفيا يزيد الخدر العام ويجعله من فعل لطبع بحسب قاعدة بالدوين في الطبيعة ، وذلك باستخدام العاطفة الأكثر حساسية على مدى التاريخ و الحضارة الإنسانية وهي الدين ، فالزمن لدى الحالتين المعبر عنهما في العبارة الأولى معطل ومهمش بالدرجة التي تسلب تلك المقاربة كل أساسيات الصحة و القوامة و المنطق .
فعهد الرسول الكريم قد ولى و انتهى ، وكذلك عصر المعجزات ، وليس منا مبشرون بالجن ، وليس كل ضحايا الحصار هم من المهاجرين أو الأنصار أو غيرهم ممن آمن مع الرسول الكريم ، كما أن الجيش الإسرائيلي ليس بكفار قريش ، على الأقل بمنطق علاقته مع الإمبريالية الأمريكية .
إن تلك المقاربة ، وعلاقتها المعطلة مع العامل الزمني ، هي مقياس للكثير من الظواهر الخطابية و التي و إن كانت صوتية إلا أن لها تأثيرا لا يمكن تجاهله تراكميا ، وذلك بزيادة حس التباكي على الماضي وتعميق الحس الكاذب بالبراءة و الشهادة و الحق المطلق من السماء .
ولتحليل الصور الواردة في مقاربات مثل المقاربات السابقة ، وجب علي الانطلاق لذلك من نقطتين أو محورين :



المحور الأول : الأنا و الذات :

إن اختصار قضية الصراع –وغيرها- أو الحصار في عنصر قيمي متضاد من خير و شر ، إيمان وكفر ، وما يستتبع ذلك من قيم مطلقة ، تمليها تصاوير –إن جاز التعبير- تنال من شخص رسولنا الكريم ، يجعل الاعتراف بال(ذات) أمام ال(أنا) في هذا الحدث السياسي أو غيره هو اعتراف بالخيرية و الصلاح المطلقين ، وما يستلزم ذلك تعطيل العقل النقدي وتحديد الخطأ أو/و المخطئ . إن ذلك الاختصار إنما يعمل على تغييب العقل البراغماتي الذي يحدد المسئوليات و الواجبات اتجاه الصراع ، وأثر ذلك في غياب النقد الذاتي ، من ذلك مثلا النفي عن حركة حماس خطأ الدخول للمعترك السياسي على رأس ظاهرة ديموقراطية نادرة الحدوث في المنطقة ، اعترافا من الحركة بأبجديات اللعبة السياسية التي بنيت أولا وأخيرا على بنود اتفاقية أوسلو والتي رفضتها الحركة مسبقا وكذا رفضها الكثير من عقلاء و أمناء القضية لما كانت تمثله من سقطة . ومن ذلك أيضا ما تمثله تلك المقاربة من الدعوة للإستكانة و السلبية والتصابر –إن صح القول- حتى بعد افتراض وجود القدرة على الاعتراف بالخطأ ، كل ذلك في انتظار الأمر الإلهي بالهجرة للحبشة أو غيرها.
إن حالة النوسطالجيا المخدرة التي يعمقها ذلك الخطاب المغلف بالعاطفة ، في ظل تدني مستوى الثقافة و الوعي و المعرفة بالعموم و المتنامية في الوطن العربي، ساهمت بشكل كبير في تعطيل الفكر السياسي الإسلامي ومواكبته للعصر وديناميكيته ، كمحتوى تراكمي ، وأداة تحليلية ، لما في ذلك لعزل لمبدأ الخطأ لزاما منطقيا لقاعدة الحق الإلهي المطلق ، فالفكر حينها كأداة لا يخطئ، وبالتاي فالفكر كمحتوى ثابت ثبوت الجماد على الصحة ، ويمكن رؤية ذلك على الكثير من مظاهر الفكر السياسي الإسلامي والتي توقف الخطاب لدى توصيفها بقدسية الزمن القديم كوثيقة المدينة المنورة و مبدأ الشورى، وكلاهما إعجاز لا يتعدى ظروف الزمان و المكان الخاص بهما.
إن عقلية "القص و اللصق" الخطابية لنموذج السلف ، تتحمل نصيب الأسد من حالة النوسطالجيا التي يعاني منها الفكر الإسلامي في وقتنا المعاصر على الصعيد السياسي و الحضاري و حتى المعرفي كما سيأتي تباعا ، كما أنها تفسر تضييق مساحة الحكم الأخلاقي والمنطقي وكذلك المعرفي على الأمور بحكم تقسيم العقول بمنحى رأسي ، في استغلال أيديولوجي سلطوي لقاعدة : اسألوا أهل العلم ، والتي سرعان ما حولت المعرفة و العلم استحواذا رأسيا-هرميا ، مصدرا للكثير من ديباجات الرقابة و السطوة التي تطورت لسرطانات التكفير تحت مسمى الدين وحمايته ، جاعلا من العلم و الفكر و الثقافة حقلا رأسيا يتقاسمه السادة و العبيد.

المحور الثاني : الأنا و الآخر :

ولأن السياسة – و إن كانت على عكس أماني البعض الأيديولوجية – لا تدور في فلك ال(أنا) فقط، كان هناك الآخر أيا كان ، أقلية في وطن أو مدافع عن نفس الوطن أو حتى من سكان هذا التجمع الإنساني . ولأن السياسة تشمل من ضمن ما تشمل بناء صورة لل(آخر) ولعلاقة ال(أنا) به ، كان وضع صورة له على أدق ما يمكن وبتثبيت الزمان و المكان و العلاقة الرباعية الأطراف : (الأنا-الآخر- الزمان- المكان) هو سر للعملية السياسية الناجحة ، بعيدا عن أطر العاطفة المجندة .
لذا كان استخدام ثنائيات مثل : (الخير - الشر) و (إما – أو) في الخطاب ، يؤدي لإنتاج صورة ليست واضحة المعالم ، لما تعتمده من الإطلاق عنصرا بنائيا في الحكم ، مما نشهده من صعوبة تقبل ذلك الآخر صاحب الموقف المحبذ سياسيا ، متى كان خارجا من ذلك الشر المطلق أو المادية المطلقة (مثال ذلك التعامل مع كتاب ومفكرين يهود مثل نورمن فنكلستين أو نعوم تشومسكي وغيرهم) ، كما كان هو نفس السبب الذي يجعل الحكم الموضوعي و الأخلاقي على أفعال أي آخر محبذ أيديولوجيا موضع شك ومزايدة وبحث عن مبررات كما هي علاقة الكثيرين منهم مع الإرث الجرائمي الهتلري النازي و هو ما يفسر حالة الترادف الخطابي بين لفظ مثل : عنترية و هتلرية ، وأخيرا وليس آخرا المحاولة الدائمة لاختصار الفكر السياسي الليبرالي المعاصر في رمزين اثنين لا ثالث لهما هما الأفغاني و محمد عبده في حين أن الاثنين عملا على إخضاع الإصلاح الديني للظرفية السياسية أو العكس من إخضاع السياسة للظرفية الدينية مما أفقد الدين محتواه الروحاني وتحول لتجربة سلطوية.



من المحورين الأول و الثاني نرى أن حالة الإطلاق و الاستحواذ و الثبات ، المغلفة بالعاطفة الدينية المتوقفة الزمن ، إنما هي عامل معطل للمعيارية في الحكم ، تلك المعيارية الضرورية لقيام العقل البراغماتي الضروري و اللازم لدى التعاطي مع معطيات السياسة و المجتمع بالنقد و التساؤل ضمن تفاصيلها الآنية والمكانية .


الخطاب ما بين النهضة و الديموقراطية :

إن القطع بثبوت الخير و الشر بالتوازي مع ال(نحن) و ال(هم) ، ومع تخطي تلك الثبويتة حدود الوطن و القطر و القومية ، يجعل حرية التعبير و هي القضية الديموقراطية الأم ، و التي تتأتى شرطا أساسيا و أوليا وسابقا للنهضة ، محصورة في إسقاطها لل(أنا) و ال(آخر) ، وبالتوازي مع : (كلمة حق) يواجهها (إفساد في الأرض) ، لتصبح حينها حرية التعبير هي مظهر استحواذي يبرر نظم الرقابة باسم السماء وما تمتلئ به هكذا بروتوكولات من صور للعنف ليس التكفير فيها سوى وسيلة من الوسائل لضمان السيطرة بالخطاب العاطفي الأيديولوجي ، وكذلك الصمت أمام مظاهر العنف ، وهنا أتذكر الخطاب الخجول الذي قدمه الأمين العام للإتحاد العالمي لعلماء المسلمين والذي تناول رواية نجيب محفوظ (أولاد حارتنا) ذلك الخطاب الذي كان الأجدر بالأمين أن يحفظ ماء الوجه عن أن يدعي موضوعية وحيادية لا يملكها من يصدر ديباجات الحق السمائي المطلق وصادرات خيال السلطة.


الخطاب وأثره على الاستقراء التاريخي في الفكر السياسي الإسلامي :

إن تاريخنا الاجتماعي و السياسي كحضارة إسلامية وعربية (الأيديولوجيا هاهنا لها مدلولاتها)، يتميز بتداخل الظرفية الزمانية و المكانية وتفاعلهما بشكل مميز ، إلا أن عملية عزل الزمان في الخطاب السياسي لدى استقراء التاريخ السياسي ، جعل الارتباط بين الخطاب و المكان أكبر بكثير من ذلك مع الاثنين معا : الزمان و المكان .
جعل ذلك الاستقراء التاريخي –باعتبار أهمية الخطاب وحيويته كوسيلة سلطة ومعرفة مؤثرة سياسيا - جمعيا وليس خطابا مجردا- هو استقراء للمكان ، فأصبح التاريخ هو تاريخ الكوفة و البصرة و القاهرة و القيروان و دمشق وبغداد و الأندلس في رمزية للدول الإسلامية ، مما حول التاريخ الإسلامي حضاريا إلى أرخبيل سلطوي ، أي إلى تاريخ مجموعة من الجزر المنفصل زمانيا كانفصالها مكانيا ، أي أن منتج استقراء هذا التاريخ السياسي بخطاب عاطفي يرتبط بالمكان ، جعل الوعي التاريخي السياسي وعيا (تراكميا) وليس وعيا (تعاقبيا) ، بملي ستلزمه الأخير من الاعتراف بحضور الآخر وتأثيره في الزمان و المكان .
إن هذا النوع من الخطاب ألغى الترابط المنطقي والتراتبي بين كل جزيرة وجزيرة في التاريخ السياسي معتمدا على عاطفية نوسطالجية تقيس الحضارة بامتدادها السلطوي ، لذا نجد دوما عبارة : (لقد وصلنا للأندلس) ، مغفلين كيف وصلنا للأندلس و الأدهى والأكثر دعرا كيف خرجنا من الأندلس.
في حين أن الدورة التعاقبية لأي حضارة هي انعكاس للرابط بين الزمان و المكان بما يحمله ذلك من تفاعلات اجتماعية و سياسية واقتصادية و حضارية ، بما ضمن للدين الإسلامي كعقلية حضارية و ليست سلطوية حضورها الذي شهده التاريخ ، ويتجنى عليه البعض بصادرات النوسطالجيا والمزايدات على العنصر الحضاري واختصاره في العنصر السلطوي متغنين بمظاهر السلطة المتجبرة من مركزية وحكم الفرد الواحد وتصنيف للولاية بحسب الجنس أو طريقة العبادة ، متجاهلين عناصر الزمان و المكان ، ولا أستثني من ذلك الأندلس كمشهد غنائي للسلطة وليس للحضارة مسقطين الكثير من أساسيات المعرفة و التاريخ بدفن الرأس في الرمال.

__________________________
_________________________________________________________

الهامش:
رابط المقال على صفحات مجلة عرب ال48
http://www.arabs48.com/display.x?cid=5&sid=84&id=69809



1. المراجع:

- في نظم السياسي للدولة الإسلامية : د.مجمد سليم العوا
مجلة الوسطية الصادرة عن التيار الوسطي الاسلامي
- في نقد الخطاب الديني د.نصر حامد أبو زيد
- اشكاليات الفكر العربي المعاصر : د.محمد عابد الجابري
- الدين و الدولة : برهان غليون

Friday 12 March 2010

في نقد النوسطالجيا...1


(لقد عامل المزاج الثوري والنفسية الثورية ، الإصلاح عبر التطور التدريجي :
Evolution
كنقيض للثورة :
Revolution
أو كاجهاض لها وتآمر عليها).

كانت تلك العبارة للمفكر والمبدع عزمي بشارة قد استوقفتني مرارا ومطولا لدى قراءتها ، لأنها شرحت وباسهاب سهل ممتنع العقلية و المنطقية الثورية المؤدلجة أيا كانت ، وعلاقتها بتيارات الإصلاح السياسي ، ولايمكنني استثناء حركات الإسلام السياسي –الثورية حاليا والتي تختصر الاسلام في السلطة – من تلك التيارات.
وذلك لأن علاقة الاسلام السياسي كمزاج ونفسية وحتى أجندة ثورية ، وكأي توجه ديني سياسي ، لم تعامل ذلك الأخير كمجرد نقيض ، انما أضفت على طرفي تلك العلاقة الضدية أبعادا قيمية ، انعكاسا لاستحواذ الحق الالهي المطلق ومايستتبع ذلك من عقلية مؤمراتية تبرر دوما إزدواجية دائرية مفرغة تقوم على وجود:

1.
مخلص :
على صورة ملك آخر الزمان الذي سيأتي ليخلص العالم من شرور آخر الزمان يوم يكون القابض على دينه كالقابض على الجمر ، ذلك المخلص هو عقلية أفضل رقابيا ، لها القدرة ال
الهية على الاخبار بمكمن الخير و الشر ، في مصادرة وقحة على العقل الفردي والحرية ، واختصارا للمنطق و الملكة النقدية الفردية.
صورة تمثل اسقاطا لأحد اثنين : صنم أو معجزة ، ومايستتبع ذلك من جمود النقد أمام خطاب ديني أيديولوجي عاطفي يبرر للعامة المخدرين أي توجه كان سياسيا اقتصاديا فكريا أو اجتماعيا ، مما تشهده ساحاتنا من مظاهر مفتي السلطة أو شيخ المعرفة الغير محدودة و الذي يدلي بدلوه الفارغ و المسطح غالبا في القضايا السياسية و الاستراتيجية المختلفة متحدثا في الغالب باسم السماء.
ان وجود ذلك (المخلص) هو المبرر الضامن و الدائم لانتشار وتسرطن علماء الكلام / النص / النقل ، وليس علماء العقل / الفقه ، في اختصار واقتصار لعالمية الرسالة الاسلامية في عنصرها السلطوي وليس عنصرها الأصل وهو الإنساني ليصبح الدين بالمجمل نقلا وليس عقلا ، وجمعيا وليس فرديا
.

2.
عدو:
هو دوما (آخر) شرير ، كافر ، مادي ، غير روحاني ، متفسخ الخلق ، طامع في ارثنا أيا كان ، وجوده هام لوجود المخلص .
ولأن كل هذه الأوصاف تستدعي وتجند منطقيا واعيا وباطنا يغرس في العقل و الخريطة الادراكية رفضا لذلك الآخر بالاجمال ، فقد تطور ذلك الرفض ليبلغ حد الاقصاء والإلغاء لتأثيره وارثه ومنتجاته ودوره المعرفي انسانيا.
لذا يصعب على المراقب للعقلية الاسلامية السياسية -حاليا- ملاحظة أي حضور لإزدواجية (الأنا و الآخر) بمنحى أفقي وليس رأسي ، وذلك –وكما سأشرح في المقال المقبل الذي يتناول النوسطالجيا في الخطاب و الاستقراء التاريخي بالتفصيل – هو السبب في جعل القراءة التاريخية للحضارة الإسلامية مختصرة في:
1.
قراءة سلطوية تتغنى في حكم الفرد الواحد ومركزية السلطة وتهاب المدنية وأسئلتها واستحقاقاتها.
2.
قراءة جزر معزولة :جزيرة الأمويين ، العباسيين الأندلس ..وما إلى ذلك ، وهي قراءة تغفل حضور الآخر و تأثيره في الانتقال من جزيرة لأخرى.
مما جعل الفكر الانساني هو فكر استقطابي أيديولوجي في حين أنه قائم أفقيا على التفاعل بين ال(نحن) و ال (هم) أي ال(أنا) و ال(آخر).


3.
وأخيرا بعد (المخلص) و (العدو) تأتي النسبة الأكبر المغيبة و المخدرة وهم العامة أو الجمهور:

هم المغلوبون على أمرهم في أنتظار معجزة تزيدهم خدرا ينتشون به ويحتسبونه عند خالقهم ، مقيدون بعقل رقابي تقوده أصنام وفكر رقابي يجعل العامة رقباء على أنفسهم ومصدرين للأحكام من باب القص و اللصق عن الصنم/ الشيخ أو العالم الفلاني ، من دون أي عقلية اطلاعية نقدية تسمح بوجود الإختلاف وتعترف بالفردية . عامة جل مايملكونه هو متثاقفين مزدوجو المرجعية ، وأصحاب قراءات موجهة يعيشون تحت سقف الفكر الرقابي ، ينتجون فقط خطابات استقطابية وعاطفية مثقوبة ، وسآتي بالتفصيل على تلك النقط : الخطاب.

كلمة نوسطالجيا تعني في ابسط صورها (الحنين) ، إلا أنها ههنا عنت (الحنين) المرضي ، وعموما من مشاهد النوسطالجيا :

* الإزدواجية:

قديما في المجتمعات الانسانية البدائية الأولى والتي تطورت من منطق طبيعي مادي يضمن سيطرة
الذكر الأقوى ، خرجت قاعدة الأغلبية، و التي اضفت صورة جديدة على مبدأ القوة وهي الأغلبية. فكان حكم الأغلبية هو وسيلة إتخاذ القرارات ، ولكن ومع تطور الزمن و الوعي و الفكر الإنساني وبزوغ علوم السياسة ، تبدى للعقل البشري ومنطقه كمية الظلم الواقعة على الأقلية (الضعيفة تبعا لمبدأ القوة ) ، ومااستتبع ذلك من مزايدة على انتمائهم ووطنيتهم في وطن تقوده ال(أغلبية) وليس ال(كل) ، فحكم الأغلبية هو عزل لإرادة الأقلية وحق تمثيلهم ككجزء من جمعية الوطن لل(نحن) و ال(هم).
لذا فقد كان سقوط قاعدة حكم الأغلبية ديموقراطيا هو سقوط منطقي ومعرفي يتوازى مع تطور الفكروالمنطق الانساني. وقد كان أول من أشار إلى ذلك جان جاك روسو في العقد الاجتماعي ومونتيسكو ، ومن ثم جاءت مقاربة أيان راند الفلسفية السياسية الأدبية في رائعتها (أطلس متشنج
) :
ATLAS SHRUGGED

وعموما تكمن تلك الازدواجية لدى التعامل مع (حكم الأغلبية) المتوفي اكلينيكيا في نقطتين:

1.
المناداة بتغليب المرجعية الإسلامية / مرجعية الأغلبية ، لتصبح مرجعية وطن (الداخل
) ، ليصبح بالتبعية الوطن هو مرجعية ايديولوجية للأغلبية وليس لل(كل) ، وذلك يفسر بشكل أو بآخر ضبابية التعامل مع مبدأ المواطنة لدى أصحاب هذا التوجه ن و التي تصل أحيانا حد انكارها رجسا من عمل الشيطان أو استيعابها بميوعة لا يثبتها الواقع ويتغنى بها الخطاب.

2.
المناداة بحقوق الأقليات المسلمة في (الخارج) ، والمناداة بخروجها على قاعدة الأغلبية مع أنها نفس القاعدة التي ينادى بتطبيقها في (الداخل) ، كما حدث حينما اعتبر القرار الفرنسي بمنع الحجاب مصادرة على حقوق الأقليات ، في حين أنه قرار اتخذ بالأغلبية البرلمانية ، كذلك قرار حظر ال
مآذن في سويسرا والذي تعدت نسبة الموافقة عليه حاجز النصف أي أنها كانت أغلبية ، ناهيك طبعا عن الصمت على مظاهر القهر بإسم الأغلبية الدينية – ولو كانت ظاهرية – في بلاد مثل السعودية التي تفرض لباسا معينا على كل النساء.

ان تلك الازدواجية في المعايير لدى التعامل مع (حكم الأغلبية) في ( الداخل) و (الخارج) ، تصب في النهاية لتغذي جنبا الى جنب مع استحواذ الحق الالهي المطلق بالأفضلية ، العقلية المؤمراتية واستحواذ دور الضحية البريئة ، مما يشرح الكثير من مشاهد العزلة التي يعاني منها الفكر الإسلامي السياسي – حديثا في التاريخ المعاصر- ، وكما هي تلك التي تعاني منها الاقليات المسلمة في أغلب دول العالم ، والتي غالبا ما تساق ضمن الإحساس بالغبن و الاستهداف مجتمعيا وعالميا ، لذا لم ولن تنمو تلك المجتمعات لتصل لوصف (الغيتو) ، إذ أنها دوما ثائرة على تركيبة الموزايك الخاصة بمجتمعاتها ، والموزاييك الدولي العالمي بالنسبة لذلك التوجه على أساس أنه علاقة ثابتة الطرفية بين جاني آثم بالاطلاق وضحية بريئة وشهيدة. ، لذا فعندما يخرج م
ثال من تلك الأقلية ليتفاعل ويتأقلم مع مجتمعه بأغلبيته و أقليته تنهال عليه الأضواء ويصبح أعجوبة وعلامة فارقة ، ويتم تصويره على أنه عنتر زمانه متغلبا على الصعاب القهرية التي وضعت في طريقه ، في حين أن من وضع تلك الصعوبات هي العقلية المؤامراتية الانطوائية ، وجل ما قام به هو الاندماج مثل غيره في منظومة لا تتوقف أمام الأفراد بل أمام الاستحقاق الفردي و الجدارة الفردية.


*
الأيديولوجيا الاستقطابية:
عندما تصبح المواطنة انعكاسا واستحواذا لأيديولوجيا الأغلبية دون الأقلية ، تصبح حينها أيديولوجيا استقطابية ، أي أن المواطنة حينها تصبح مواطنة استقطابية ، تخدم وتعرف الأغلبية كامل التعريف والربط بالوطن ، ولا يكتمل تعريفها وتقديمها للأقلية ، وما ينتج عن ذلك من ديباجات جاهزة التطريز مثال ذلك:
(
ولاء الأقلية غير مضمون) و (هم متهمون حتى تثبت ادانتهم) ، متناسيين أن ذلك رد لفعل.

*
صكوك الشهادة والغفران ، وصكوك التكفير و اللعنات:
لايمكننا قراءة تلك المشاهد وملاحظتها بعيدا عن توازي ظهورها مع بداية عصر الانحطاط والتدهور الذي دخلته الحضارة الاسلامية بعد قيام الدولة العثمانية بقليل ، فتلك المشاهد لم تكن لتظهر قبل دولة الاسلام في الأندلس ، و التي شهدت زخما فكريا ومعرفيا وحضاريا جما لم يتدنى يوما لتصدير أي صورة من صور العنف والتكفير وان كانت قد ظهر فيها أدعياء للنبوة
ومصدريين للخرافات الفكرية والتجني على شخص الرسول وديننا الكريم ، إلا ولأن الحضارة كانت مبنية على افكار لا سلطة ولا أفراد فلم يعرهم التاريخ ولا الواقع اهتماما لخلو فكرتهم مما يقيمها ، فسقطوا وسقطت ، من دون أن يسقط عليهم أحد ضوءا.
ومن أعلام ذلك التوجه التكفيري من اتخذ التكفير منهاجا ، جاعلا رؤوس المختلفين معه (معالم على الطريق) طريقه إلى جنان الخلد ، هو من يسقط عليه الكثيرون أكاليل الشهادة الدينية وما يستتبعها من معية للأنبياء و الأبرار و الصالحين وأيضا شفاعة في أهله جزاءا لما فعل ، إلا أن من يغدقون عليه وعلى ما يمثل من بنك الشهادة ، يغفلون نقطتين هامتين:

1.
أغلب القراءات لمنتج ذلك الشهيد القطب هي قراءات ممسوسة بمس الشهادة الدينية واستحواذ براءة تصديرها ردا لفعل مورس ضده باسم الحرية وهو القتل خوفا من فكره ، أي انه شهيد حرية الفكر و ليس شهيدا دينيا ، لأن ذلك المس بالبراءة واستحواذها دينيا يعطل القراءة الحدثية لتفاصيل ال
ظرف الذي أعطى تلك المنتجات من أحوال سياسية و اجتماعية ودينية وغيرها ، مما يعطي لمنتجاته بعدا مرجعيا مطلقا يسمو فوق الظرف.

2.
ان إضفاء عنصر الشهادة الدينية على صاحب أفكار مثل تلك التي وردت في كتاب (معالم في الطريق) مثلا ، انما هي شهادة براءة واثبات لأحقية وشرعية قتل وتعنيف الآخر المختلف بعد تكفيره ، كما أنها اعتراف بأن قتله وممارسة العنف ضده انما هو : دفاع عن الدين أو المال أو العرض أو الأرض، تبعا للمنطق الاسلامي للشهادة – دينيا ، مما يجعل الأختلاف انما هو صراع بقاء وصراع دفاع عن الحياة ودفاع عن النفس وهو مبرر ، بل وتباركه السماء أيضا وتجازي فاعله جنان الخلد ومعية الأنبياء و الصالحين والشفاعة لأهله.

إلا أنني وللأمانة الأدبية لا أنفي عن السيد سيد قطب أنه شهيد الحرية ، لأنه قد مات دفاعا عن أفكاره ومبادئه ،وإن كنت لا أوافقه عليها بل و أعارضها أشد اعتراض ، إلا أنني لا أستطيع أن ألبسه ثوب الشهداء / دينيا ، لأنني لا أوافق على قتل المختلف أيا كان..أو هكذا قال الدين الذي يصادرون عليه ويحتكرونه.


ان الخدر الذي تنتجه صكوك الشهادة و الغفران ، بجانب صكوك التكفير ، انما هو مخدر موضعي يصيب ضمن ما يصيب العقل الانساني الفردي النقدي لسببين:
1.
إسقاط الخيرية حقا الهيا في ال(نحن) ، لذا فلا داعي لنقد الخير.
2.
اسقاط الشر في ال(هم) ، وأيضا الحلال بين و الحرام بين.

وقد كان غياب العقل النقدي الفردي واضحت وشديد الوضوح في رد قاتل الكاتب فرج فودة وأيضا ذلك الذي حاول قتل نجيب محفوظ ، ولأنهما كانا مساقين ومغيبين كان العقل الفردي النقدي لديهم غير موجود عندما سئلا أقرأ أحدكما شيئا من كتابات من تكفرونهم كانت الإجابة طبعا : لا.

ان ذلك الخدر يقسم الناس لقسمين اثنين:
الأول سادة :
يملكون التفويض السمائي والإلهي بالتفتيش في القلوب وتصنيف الناس واصدار الصكوك بنوعيها والوكالة عن الله ، وتعليب الأحكام النمطية .
سادة يعيدون تصدير صورة الآلهة باستخدام الأنظمة الرقابية السلطوية وتجنيد الكثير من العبارات الزئبقية المائعة التي لا يمكن الإمساك بها ضمن مبدأ ال"مع" أو ال"ضد" ، وهي في النهاية مبرر وانعكاس لمبدأ (الغاية تبرر الوسيلة).

الثاني عبيدا : غرست لديهم المحدودية و الدونية الفكرية التي شلت في النهاية العقلية النقدية الفردية وملكة التأويل و التخيل و الابداع ، وجندتهم سدنة فكر رقابي سلطوي في سجن كبير يراقبون بعضهم بعضا ، من دون السمو لمستوى الفكرة ، والتوقف لدى سياسيات التكفير الأعمى وتنفيذها.

ان علاقة السادة و العبيد من هذا المنطلق أدت إلى امتداد قيود (الثبات) الخاصة ب(إلهية) ال(التنزيل) للنص الديني إلى أن طالت (ديناميكية) (انسانية) ال(تأويل) لذا النص الديني ، مما جعل أي مقاربة ينادي بها أصحاب ذلك التوجه السلطوي ساقطة (واقعيا) وذلك ل(ديناميكية) الظرف والواقع ، و(ثبات) اسقاط النص (الثابت) منذ مايزيد عن ال 1400 عام وغياب العقلية النقدية وكونها استحواذا لعلماء كلام.
ليست (الشورى) هي المثال الوحيد الذي وصل الانتشاء بقدسية النص فيها حد تعطيل أي تأويل ونقد للتطبيق.

في النهاية –نهاية هذا الجزء- وددت أن أورد مثالا يوضح مدى تقيد العقل الفردي كنتاج للفكر السياسي الديني السلطوي:
قيل لي تعليقا على إختياري لكلمة (نوسطالجيا) عنوانا لهذه السلسلة من المقالات أن ذلك الاختيار لا يناسب الفكرة المطروحة في المقال وهو كما قصدت (الحنين) المرضي ، لأن التعريف الوارد في الموسوعة البريطانية (الانسيكلوبيديا) لم يورد تعريف خارج التعريف التاريخي لها.
وكأن (النوسطالجيا) هي معلومة صلبة مادية لا تمس ، إن تعليقا هشا وسطحيا وأجوفا كهذا ما هو إلا إنعكاس لظاهرة حصار التأويل الإنساني بسلاح القص و اللصق أو كما تقال بالعامية (حافظ مش فاهم).
وطبعا إذا سئل هؤلاء:
أيجب علينا أن نصادق بالمطلق وأن نغيب الملكة النقدية الفردية و الجمعية بهذا الشكل القاصر؟ وبالذات عندما نقرأ مثلا تعريف (الصهيونية) في نفس الموسوعة البريطانية (الإنسيكلوبيديا) ؟
وطبعا ...لا اجابة.

للحديث بقية