Tuesday 18 May 2010

في الأيديولوجيا


ظهر مصطلح "أيديولوجيا" إبان الثورة الفرنسية كمرادف لعلم الأفكار ، إلا أنه سرعان ما تطور لينفصل و يتفسخ عن قيود ذلك التعريف المطلقة ،لتظهر فيما بعد المناهج الشارحة و المحللة للأيديولوجيا والمترصدة على إمتداد علوم إجتماعيات الثقافة لمظاهر الفصل و الوصل بين علم الأفكار – المطلق و الأيديولوجيا – النسبية . وإن كانت الأيديولوجيا لا تقوم لها قائمة بمعزل عن علم الأفكار الإنسانية بقيمه المطلقة من حرية وعقلانية ومساواة وعدل وما إلى ذلك ، إلا أن الأيديولوجيا هي المنهج التطبيقي الذي يضع الأفكار ضمن قالب معين يفقدها الكثير من فضاءها الحر ، لتصبح في النهاية أداة طيعة لايمكن إستقراؤها لذاتها بعيدا عن كونها وسيلة تطبيقية وليست غاية ذات قيمة .

وإلا فما هي الأسباب التي جعلت الفكر الإنساني في كل أدواره يرى الأمور / الأشياء طبقا لدعواه هو وليس طبقا لذواتها ، مع ثبات الفكرة وتطور مناهج الإحتواء وتباينها.

نقول أن فلانا ينظر للأشياء نظرة أيديولوجية ، نعني أنه يؤول الأشياء و الوقائع بالكيفية التي تظهرها دائما متماهية مع مايظن أنه (الحق) . إن الفكر الأيديولوجي- الموجه يتعارض مع الفكر الموضوعي- الحر ، وهو مادأب على الإشارة إليه المفكر و الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو في تحليله للخطاب كأداة من أدوات التمثيل أو الإنعكاس المعرفي الرابط في نظرنا بين علم الأفكار و الأيديولوجيا ، لذا كان الإختراع الإنضباطي المعرفي لدى فوكو في شبكة العلوم الإنسانية – خطابيا لا تشكل تحريرا بل هو أحد وسائل ميكروفيزياء السلطة ، لذا كان ما أسماه البعض (الذاتية العقلانية) تشكل لديه مشكلة لا عقلانية.

ولأن الأيديولوجيا هو مصطلح يكثر إستخدامه في علوم السياسة مما يثبت أن تفسخه عن علم الأفكار ، إنما هو انعكاس لدى براغماتية النهج التطبيقي لعلم الأفكار المطلق ، بلفظ آخر الأيديولوجيا هي نسبية النسبية وليس نسبية الإطلاق ، لذا كان إستعمال (الأيديولوجيا) مثلا في مجالات السياسة كالمناظرات السياسية ، حيث أن الدارس لأيديولوجيات الحق السياسي لا يحكم عليها من زاوية الحق و الباطل أو الصواب و الخطأ ، إنما بوصف فاعليتها البراغماتية في استمالة الناس و الاقتراب من أهدافها ضمن حيثيات زمانها ومكانها.

إذا أسقطنا التجربة الإنسانية بين محوريها : النسبي و المطلق ، يتبدى لنا أن اختلاف التطبيق للفكرة هو النسبي وهو من خلق الأيديولوجيا لتصبح حينها سقفا لنسبية ذلك النسبي ، بمعنى أنه لم يعد هناك أصل ثابت يضمن الحقيقة المطلقة ، لا يوجد علم مطلق ، فالمجتمع الإنساني مجزأ لطبقات و فئات ومجموعات ، ولا سبيل لإرجاع معتقدات الطبقات و الفئات لأصل واحد ، فكل طبقة وفئة ومجموعة تبدع منظومة أيديولوجية خاصة بها ، متماهية مع الحق المطلق لديهم. ومجندة القيمة المطلقة في صورة الحق – حقهم – وسيلة للوصول للمصلحة الظرفية الجمعية الآنية ، وغالبا مايتم ذلك عن طريق خطاب أيديولوجي ، يعمل على تصوير الفصل بين الأيديولوجيا و علم الأفكار على أنه تأسيس لحالة من الفوضى و العبثية ، وإضفاء مبررا وجوديا على ذلك الربط بينهما، وذلك على حساب حرية العقل البشري المطلقة وديناميكيته التي سرعان ماتصبح موتورة ومسقوفة لحساب إثبات الذات الأيديولوجية وليست الذات الحرة ككينونة مستقلة متجددة ومتطورة.

لذا كان الخطاب الأيديولوجي ، وسيلة لبسط السلطة عن طريق نسبية المعرفة وتوجيهها بدلا من الإطلاق كطبع معرفي ملزم لعلم الأفكار لايستوي بدونه ، لذا كان الخطاب الأيديولوجي ، يتمحور حول هدفين إثنين :

1. المنع من التذرر : (ATOMIZATION)

التذرر هو لفظ مشتق من الذرة و هي أصغر الوحدات المكونة للمادة أو المركب و التي تحمل الخواص المميزة له ، أي أن الخطاب يعمل على منع تفكك عرى الجماعة (كمادة :المادية / كمركب: العضوية) ، التي تشترك في مفهوم واحد نسبي التطبيق متماهي مع صورة الحق الجمعية و الاستحواذ المعرفي للقيمة المطلقة لديهم، ويستمد شرعيته بحسب المصلحة و الفائدة العامة للجماعة ، و المتملثة في أبسط صور الحضور و إثبات الذات.

2. المنع من الفردانية : (INDIVIDUALISM)

الأصل في الإنسانية : (الإنسان) قبل أن يصبح تمثيلا أيديولوجيا : إثنيا ، طائفيا ، قبليا ، عرقيا ، ميثولوجيا أو أي نوع من الأيديولوجيات كان . وذلك لأن الأيديولوجيا هي نتاج مجتمع أو هي نشاط اجتماعي نسبي وليست نشاطا فرديا في البداية، في حين أن المجتمع نتاج إنساني . الفردانية هي عودة الفرد لحالة الإنسانية المستقلة و ليست المتفردة ، أي أنها إتحاد الفرد بذاته الممكنة وليس ذاته المثبته ، لذا كانت الأيديولوجيا تصوير لحالة من البقاء الهوياتي للمجتمع وما ينسحب – قسرا – على البقاء الفردي ، لتصبح حينها أي مقاربة لعلم الأفكار المطلق ماهي إلا خروج عن النسبية النسبية للأيديولوجيا ، تنتهي بتصويرها مأسسة لحالة من الفوض و العبثية وانعدام القيمة في إحدى صور السيطرة بالخوف ، في حين أنها مسائلة لاتنفصل عن المخزون المعرفي الإنساني : الفردي و الجمعي ، إلا أنها ترفضه سقفا محتوما بالثبات و الحق المطلق .

ومن هنا يتضح لنا أن للأيديولوجيا كيان زئبقي خداع ، يجعل من أي قراءة داخلية ، حرفية ، تجزيئية ، تفكيكية تعتمد كأي قراءة أخرى على العقل الفردي الحر لذلك الفكر / المعرفة/ السلطة الجمعية ، لن تقود لحلها وفهمها بقدر ما ستؤدي للغرق في أحابيلها ومشاطرتها أوهامها ، وحقوقها المطلقة ، لذا كان لزاما على أي قراءة بنيوية لأي أيديولوجيا أن تتم في سياق حدثي اجتماعي تاريخي حضاري ، لأن الأيديولوجيا هي نتاج مجتمعي وليس فردي .

ويحضرني هاهنا فرويد حيث يقول متناولا النفسية الفردية وتلك الجمعية في الخطاب الأيديولوجي :

(إننا نستطيع أن نحدد متى إنفصلت النفسية الفردية عن النفسية الجمعية / متى استقل الفرد نسبيا عن الجمع – الحشد) .

كما يقول أيضا :

( يشارك كل فرد الآخرين في جمعيات محددة : الجنس ، الطبقة ، المعرفة ، الدين ، العمل وبعد هذا فقط يكتسب – هذا إن اكتسب – ميزة يستقل بها ).

لذا كان التذرر و الفردانية هما أعداء الأيديولوجيا الأوائل ، ويظر ذلك جليا لدى أصحاب التوجهات الأيديولوجية حين التعاطي مع علم الأفكار المطلق لتصبح الحرية و المساواة و العدل في منظروهم منتجات أيديولوجية وليست فكرية لإفتقادهم للقيمة المطلقة تحت الفكر الأيديولوجي النسبي النسبية ، وهنا نجد الكثير من جهوية التفكير – إن صحت التسمية – لتصبح الحرية غربية و الديموقراطية و المساواة و غيرها من الأفكار، إما تقبل بالكل أو ترفض بالكل ، وذلك ساهم كثيرا في تعطيل العقول النقدية المفكرة وتغلغل عديد مشاهد الخدر ليست النوسطالجيا إلا أحدها . وذلك لأن الأيديولوجيا لاتحمل من الضمائر و أسماء الإشارة إلا الجمع وليس ضمير الإشارة المفرد ، كشرط وجودي لها .

إن مراقبة دورة الحياة لأي أيديولوجيا لا يمكننا ألا نلاحظ الإرتباط العضوي لها – الأيديولوجيا – بفكرة الجماعة ، ومن خلال المقاربة بين الأيديولوجيا الخاصة بتلك الجماعة على إمتداد تاريخها وعلم الأفكار المطلق، يمكننا رصد الكثير من حالات التضارب والازدواجية بينهم وبغض النظر عن القيم المطلقة التي يحاول الخطاب الأيديولوجي الغير أمين الإدعاء بالتأسيس لها ، و التاريخ الإنساني مليء بهكذا مشاهد بما لا يكفي متن هذا المقال بتسجيله بالشكل الوافي له .

كان ماركس و نقده لليبرالية و دراسات الإجتماعيات الألمانية مليء بالكثير من حالات الرصد للتوازي لا التطابق بين نسبية النسبية و النسبية التطبيقية لعلم الأفكار و الأيديولوجيا ‘ وذلك لدى مراقبة الأيديولوجيا و استقراؤها ضمن سياقها الإجتماعي و السياسي و الحضاري.

قد يذهب البعض إلى أن الأيديولوجيا هي التطبيق و الفهم العملي النسبي للأفكار المطلقة ، و إن كانت هذه العبارة تحمل جزءا لابأس به من الصحة براغماتيا ، إلا أننا لا نستطيع بذلك جعل الأيديولوجيا بنسبيتها مرادفا لعلم الأفكار بإطلاقه ، إنما يمكننا القول بأن الأيديولوجيا هي المقياس الاجتماعي و التاريخي و السياسي و الحضاري المعبر عن الجماعة أو الفئة ، و تقع غالبا بين إزدواجية (مطلوب وغير مطلوب) وليس (خيرا وشرا) وهنا أستعيد ماقاله كارل مانهيام :

(الأفكار تخدم المصالح وأن إنتصارها لايتوقف على صحتها ، بل على إمتلاكها للسلطة).

وهنا أنطلق للنقطة التالية :

الأيديولوجيا و الوعي :

لاشك أن الخطاب المعرفي / السلطوي ، المؤسس للأيديولوجيا على أنها علم مطلق للأفكار ورديفا للحق ، هو أحد أنواع القوى الغير ظاهرة ، بحسب علوم السياسة والتي تنقسم بدورها إلى درجات لا يسعنا متن هذا المقال للخوض فيها بإسهاب ، فالقانون مثلا قوة غير ظاهرة تؤدي لأحد أنواع السلطة ، إلا أن القانون يحتاج للقوة التنفيذية التي تضمن التنفيذ و الردع و المراقبة و الجزاء ، أما بالنسبة للأيديولوجيا فالأمر مختلف ، فهي قوة غير ظاهرة تماما ، ولا حاجة لها إلى أجهزة تنفيذية لأنها تعمل على التحكم في السلوك و المعارف الفردية ومنها للجمعية بجعل سقف الأيديولوجيا النسبي رديفا لسقف على الأفكار المطلق ، وما ينتج عن ذلك من مظاهر السلطة و التي اسماها فوكو : ميكروفيزياء السلطة ، وتلك أكثر مؤسساتية ومنهجية و تأثيرا يصل لحد الوعي البشري بكل خرائطه الإدراكية ،وتجنيدها لإثبات الذات الأيديولوجية - الجمعية وليست الذات ككينونة حرة فردية هي امكان لا يعرف المستحيل أو الثبات ، وذلك كما ذكرت سابقا بإعطاء مبرر وجودي للأيديولوجيا ، وجعل نقدها خروج عن الذات ونفيا لها ، مما يجعل الوعي ككينونة ومقدرة وخاصية فردية محكوما بالأفق المعرفي للجماعة في حدود مصالح السياق التاريخي و الحضاري و الإجتماعي لها، مما يجعل الخروج عن الحدود المعرفية للأيديولوجيا إنما هو إنقلاب عليها ، يهدد بقائها ، ولو كان بإسم نفس القيم المعرفية المطلقة التي يأسس لها ويوظفها الخطاب الأيديولوجي ، ومن هنا كانت الإزدواجيات السياسية لمختلف الأيديولوجيات لدى التعامل مع الكثير من الحقوق المدنية المطلقة من حرية وعدل ومساواة ومواطنة ، شاهدا على الإنتهازية السياسية لا القيمية المطلقة و الحق .

في النهاية لايمكن لأي قاريء للتاريخ أو مسجل له ، تجاهل أن الإستقراء الفكري للتاريخ الحضاري الإنساني ، يقع بين مطرقة الموضوعية الصلبة وسندان الخصوصية الحضارية المغلقة .

بلفظ آخر إنفصال الأيديولوجيا وتفسخها عن علم الأفكار ، لا يجب أن يدفعنا لإستقراء التاريخ بالمنطق الفكري المطلق بعيدا عن أيديولوجياته المتصارعة ، لما في ذلك من إجحاف في حق العقلية الإنسانية النسبية المنتجة لتلك الحضارة أو غيرها ، وإختصار منتجاتها في ماهيتها المادية الحاضرة فقط وليس في أبعادها المعرفية والإجتماعية و الحضارية ، وهنا تحضرني مقولة لكارل ماركس :

إن المؤرخين الذين يسجلون الوقائع الكبرى من أحداث سياسية وحروب دينية ونزاعات يشاطرون رغما عنهم أوهام الحقية التي يؤرخون لها .

ومن ناحية أخرى ، ليس من الموضوعية النقدية استقراء التاريخ لجماعة من البشر باقتصار القيم الفكرية و المعرفية المطلقة مرادفا لأيديولوجيتها حقا ،لما في ذلك من اسقاط القيمة المطلقة في إطار النسبية ، لذا كانت أدلجة المعرفة إغتيالا واختزالا لأي مجهود فكري إنساني فردي ينتج عن الفعل الإنساني الأكثر بدائية و تأصلا وإنسانية وبساطة ، وهو الشك والمسائلة و النقد وفي النهاية الإختلاف كفعل وطبع إنساني أصيل ونبيل ، لأن الإنسان إمكان لا يعرف المستحيل أو الثبات .

إذا كانت الأيديولوجيا فعلا مرادفا لعلم الأفكار ، لم هناك حاجة دائمة لجعل المفكر كائنا مأدلجا (على وزن مهجنا) ؟ ولماذا ينتقل حينها الخطاب من النص للمعرفة ومنه للطقوس ، وليس من المعرفة للنص ومنه للعمل؟




رابط المقال على صفحات مجلة عرب ال48:

http://www.arabs48.com/display.x?cid=5&sid=84&id=70970