Wednesday 19 January 2011

في نقد النوسطالجيا : (3) : في الفكر : (7) : التكفير عقلية ميكافيلية

في المجتمعات الحديثة، نجد "مواطن" و"مجتمع" و"دولة"، اما في عالمنا العربي، فهناك "مواطن" و"كيانات تقليدية" و"دولة"، إلا أن كل ركن من هؤلاء الأركان الثلاثة يتميز بما يخالف ما يؤسس له المصطلح، فلا المواطنة مواطنة، ولا الدولة دولة، ولا الكيانات التقليدية تقليدية.

يمكن القول إن "الكيانات التقليدية" كالعشيرة والطائفة والجماعة الدينية والقبيلة...إلخ، تقف حائلا بين المواطن و الدولة، إلى أن طغت على الدولة في العصر الحديث، وتلك الدولة دولة ريعية مترهلة ومركزية التي جعلت من مواطنة "مساكنة".

لذا وإن كانت الدولة في أمس الحاجة لإعادة هيكلة للبنية الداخلية لها، وتأسيس للقيم الإحتوائية لها –وليس تلك الإستحواذية –، فذلك لا ينفي -أيضا- الحاجة إلى تفكيك تلك "الكيانات التقليدية " وتحرير كتلها الحرجة، بتحليل للقوى فيها، وذلك للإرتقاء بالمنظومة ككل، إلى الحيز الحضاري خروجا من الدائرة السلطوية التي تشكل سقفا لتلك الكيانات التقليدية بكل ما يعتمل في أحشائها من مرجعيات مقدسة السلطة شبقية العنف.




لدى تشريح بنية كل تجمع بشري، يمكننا رصد وبوضوح ثلاثة تكوينات أساسية*1:
- المؤسسات التقليدية.
- منظمات المجتمع المدني.
- الدولة.
ويشكل التفاعل فيما بين تلك التكوينات الثلاثة، ما يمكن تسميته (رأس المال الإجتماعي)، والذي ينعكس في التضامن والتكامل والإحترام المتبادل في العلاقات السائدة بين الأفراد المكونين لذلك التجمع البشري، على مستوى أفقي، تجمعهم الدولة ككيان ذي مستوى رأسي، لنقطة البداية فيه زاوية لها ظل. وقبل الخوض في تفاصيل (رأس المال الإجتماعي) وتصنيفه، تجب الإشارة للنقاط الثلاث السابقة بالتعريف:

 أولا: المؤسسات التقليدية  

وهي التكوينات الاجتماعية التي تكون العضوية فيها "غير تطوعية"، أو بمعنى أكثر دقة "إجبارية"، وتتغير تبعا للعديد من التفاصيل الجغرافية والتاريخية والإثنية والدينية والأيديولوجية وغيرها، ومن أمثلتها: عضوية العشيرة والقبيلة والجماعة الدينية والمنطقة...إلخ، وتنبني هذه التكوينات على أساس ما يسمى "النزعة الاستبعادية"، حيث تضم تلك التكوينات هؤلاء الذين تنطبق عليهم الشروط و/أو الشرط للعضوية، وتنغلق أمام غيرهم.

ثانيا: منظمات المجتمع المدني

وهي المنظمات غير الحكومية (وغير الإرثية بالتعبير القانوني)، والتي تملأ الفراغ بين المؤسسة التقليدية والأسرة، وتعمل على تحقيق أهداف أعضائها بطرق سلمية: كالأحزاب السياسية والنقابات والمنظمات غير الحكومية والأندية وغيرها، وإن كان لتلك المنظمات شروط إنضمام، إلا أنها شروط ليست استبعادية، لا على أساس الجغرافيا ولا اللون ولا العرق ولا الدين، إنما تقوم على أساس مشترك، كأعضاء حزب سياسي معين أو جمعيات موسيقية أو جمعيات حقوقية أو غيرها.

ثالثا: الدولة
وهي الكيان السيادي التعاقدي الأكبر المحتكر للسلطة وممارستها في إقليم جغرافي معين ضمن بروتوكولات سياسية شرطية ذات قنوات تنفيذ وتقنين منفصلة. وعضوية الدولة ليست استبعادية إنما استيعابية (وفي تعبير آخر احتوائية) فيما يعرف برباط المواطنة.


وانطلاقا من تلك الكيانات الثلاثة، قدم "ويليام وولكوك" الباحث السياسي في جامعة هارفارد نموذجا لقياس "رأس المال الاجتماعي" قائما على التفاعل بين تلك الكيانات الثلاثة في مصفوفة رياضية يتجسد فيها "رأس المال الإجتماعي" بنوعيه "العابر" و"الجامع"، وهي أطروحة قدمت من قبل عن طريق عالم الاجتماع الأمريكي الشهير روبرت بوتنام*2:

أولا: رأس المال الإجتماعي - الجامع:

 ويأخذ تسميته من كلمة bonding الإنجليزية، والتي تعني اللحمة والتماسك والإندماج في مواجهة "الآخر" المختلف الـ"مستبعد"، ويقصد بهذا النوع من رأس المال الأجتماعي – الجامع، تلك التنظيمات – سالفة الذكر – التي تضم هؤلاء المتقاطعين لا إراديا في عناصر ثابته كالعرق والدين والجنس وغيرهم، وتلك – التنظيمات - تعمل بوصفها "شبكة أمان" اجتماعي، وفي بعض الأحيان، تؤدي عمليات "التكثيف" لرأس المال الإجتماعي الجامع إلى تعطيل عمليات التلاقي والحوار المجتمعي، وهو ما رصدته إحدى الباحثات في محاولات بعض المؤسسات الدينية التي تضم أعضاء أنجلو ساكسون إلى إغلاق الباب أمام انضمام أعضاء جدد ينتمون إلى المجتمع الديني نفسه (المرجعية ذاتها) ولكنهم من جذور أفريقية *3، وتلك الحالة ليست ببعيده عن واقعنا العربي.

ثانيا: رأس المال الإجتماعي – العابر:
 ويستمد مسماه من الكلمة الإنجليزية Bridging وتعني الاتصال أو التجسير- من الجسر، أو التلاقي بين أفراد وجماعات من ثقافات مختلفة ومغايرة (وهي ضفاف الجسر المفصولة)، وتلك الكيانات مفتوحة العضوية، تحترم تعدد المشارب والمنابت و الثقافات، وتنطلق من أرضية "المشترط" بلا "استبعاد".

وانطلاقا من التصنيفين السابقين لرأس المال الاجتماعي، فإن التصور الأمثل لوضعية ذلك المجتمع، يتجسد في ارتفاع منسوب كلا النوعين مما يضمن:
1.تماسك الوحدات البنيوية المكونة للمجتمع.
2.الانفتاح بين تلك الوحدات البنائية لكل مجتمع، على أرضية واحدة.

أما ولأن ذلك الوضع هو وضع مأمول، توجب علينا النزول لأرض الواقع، لتتعرى أمامنا الاحتمالات المتعددة للعلاقة بين رأس المال الاجتماعي بنوعيه، ومن تلك الاحتمالات وهو ما يهمنا بالأخص هاهنا:

حالة ارتفاع منسوب رأس المال الاجتماعي – الجامع، و انخفاض رأس المال الاجتماعي – العابر:
حيث تظهر المجتمعات المنغلقة على أعضائها، وتقل الفرص الاجتماعية للتلاقي والتحاور، وفي المقابل يمثل كل حدث اجتماعي وسياسي على الساحة مشهدا من مشاهد الصدام والشماتة والتشفي المجتمعي في ذات الجسد المجتمعي بين الكيانات المختلفة، التي أغدقت على نفسها الكثير من مخيالات التمركز الذاتي، المتمثل في الكيان ككيان أوحد لهوية الدولة.*4


ولكن ما العلاقة بين كل ما سبق، والتكفير كظاهرة في الوعي – المدعى- إسلاميا؟

تاريخنا العربي والإسلامي في عصره الوسيط والمعاصر لا يخفي رابطا قويا بين ظاهرتين:

1.تدهور الدولة المركزية إما بضعف أصاب سلطانها أو مصاب أصاب مركزية حاكم أو/ و شخص مؤسس.
2.ظهور حركات العنف المقدس - التكفير.

ويتضح ذلك الرابط الديني - قناعا والسياسي – جذرا جليا في "حروب الردة" كمثال –مهما اختلفت تأويلاتها- لأول بيان رسمي يعلن ميلاد أيديولوجيا التكفير. وامتدت سرطانات تلك الأيديولوجيا المقدسة، لعثمان بن عفان من قبل معارضيه، وبعده علي بن ابي طالب أمام تيار "المستضعفين"، ممن ينتسبون إلى مرجعية صحابية "ثورية" مقدس مقابل مقدس *5، وأسرفت تلك العقلية في اجترار نفسها إلى أن أنتجت أول حيلة وأقدم حيلة ايديولوجية عدت اختصارا لكل تمظهراتها، وهي حيلة "رفع القرآن على رؤوس الرماح" في رمزية فاضحة تجمع النص الديني – الروحاني – المطلق، و الرماح – العنف – المادي - النسبي، حيث كان شعار الخوارج حينها "لا حكم إلا لله".
وهنا كانت الفواصل بين "الديني" و"السياسي" في أيديولوجيا التكفير ذائبة، بحثا في ظل غياب الدولة على عنصرين إثنين:
- السلطة
- الشرعية
وبالتقدم في سياق التجربة التاريخية، يتبدى لنا تهافت البنية المدعاة معرفية – فكرية – عقدية، لصالح الشبقية السياسية تجاه السلطة والشرعية، مثال ذلك تكفير أبو حامد الغزالي للفلاسفة في القضايا اللاهوتية الثلاثة (قدم العالم، والعلم الإلهي، والحشر والمعاد)، أو تكفير أهل السنة للمتصوفة كالحلاج و ابن عربي، بالتهمة المطاطة التي يسهل ويعاد تعليبها واجترارها: "الحلول" و"وحدة الوجود"، فما فعله الغزالي وابن تيمية و ابن القيم الجوزية في مواجهة "الباطنية" و "المبتدعة"، و الدعوة الصريحة لسفك دمائهم*6 والتي هي حرام حرمة "يومي هذا في...الحديث".
إن ذوبان الفيصل بين "الديني" و"السياسي" في تلك الأحداث يعريه السياق التاريخي لمسار السلطة السياسية، كمثال: الصراع السياسي بين السلطة السنية و المعارضة الشيعية المتنامية وقتها خاصة بعد انفراط عقد الخلافة ووحدة الدولة ومركزيتها، وتوزعها إلى أربع دول: أندلسية – عباسية في المشرق، فاطمية في مصر ومرابطون في المغرب.
كل ذلك، وبمعية مشاهد واقعنا العربي في المائتي سنة الأخيرة، ستتجدد فكرة التكفير وأسسها السلفية الحديثة التي تستفيد من عناصر إجتماعية وعالمية مختلفة، منها:

1.انفتاح فضاء الاتصالات، وسرعة انتقال المعرفة والمعلومة –بعيدا عن صدقيتها وموثوقيتها- في ظل أمية تعليمية ومن ثم ثقافية عميقة.

2.وضع حضاري وسياسي ومدني وحقوقي مزر، يؤسس للتجلي الأبرز لعبارة ماركس الشهيرة*7 وبالذات في شقها الثاني الأقل شهرة، "الدين أفيون الشعوب، ومتنفس المقهورين".




إلا أننا هنا يجب أن نتوقف لنوضح أن الفكر الإسلامي المعاصر يرث عن سابقه الوسيط ذلك التوتر الإشكالي الحاد بين الحقل الدلالي لمفهوم "الاجتهاد"، و الحقل الدلالي لمفهوم " البدعة"، إلا أن الفكر الإسلامي الوسيط وعلى الرغم من كل ما أبداه من إصرار شديد على التأقلم مع متغيرات الواقع وحوادثه، بما يضمن للمقدس (الديني) مرجعيته، لم يكن ليجد نفسه في حالة من الجهد والإرهاق الفكري الحاد الذي يضغط على استعداده أو يهز إطمئنانه واستقراره النفسي، وذلك لأنه كان يتعاطى مع نوازل طبيعية تقع ضمن دائرة (الممكن) الإسلامي، أي في مدار حيز فكري واجتماعي وفلسفي لم يكن عصيا على المقاربة الديناميكية الإسلامية، من ذلك أن الفكر الإسلامي لم يجد صعوبة تذكر (فيما خلا حالة الغزالي وأشباهه) في الانتهال من التراث اليوناني وهضمه وتكييفه مع الثوابت العقدية، ولم يرفضه رفضا جهويا –بادعاء "بناء المفاهيم" – لمجرد إثبات الحضور على الساحة على وزن أنا أرفض إذن أنا موجود، لذا كان في وسع الفكر الإسلامي الوسيط أن يمارس الاجتهاد بوصفه طقسا فكريا طبيعيا، وألا يلق بالا لمن يجحده السلطة أو الشرعية.
ولكن الحال يختلف لدى الفكر الإسلامي المعاصر، الذي باتت عقليته السجالية في مظهرها التكفيري أهم معلم دال على عقلية تطورت من "أنا أرفض إذن أنا موجود" إلى "أنا أكفِر إذن أنا موجود"، فالنوازل التي تقع على رأسه ليست وليدة مجتمعه أو "تقارب حضاري" مقدور عليه، إنما هي حقائق مفروضة عليه من مجتمعات وحضارات أخرى ألحقت به الهزيمة وأضعفت مركزيته ومرجعيته وأدخلت مجتمعاته في دائرة حضارية وفكرية واجتماعية وقيمية جديدة عليه، لذا يتوجب عليه التعاطي مع الممتنع عله يصبح ممكنا. ومن هنا بات "الاجتهاد" مقاومة للعقل السجالي، المستند على مقولات فكرية مسقوفة بتعطيل الزمان والمكان بما يكفل تعطيل التأويل والتفكيك والتركيب لصالح ثبوتية النص هم أصحابها الأول مأسسة حالة الخدر والكسل العقلي والنقدي، لذا باتت تلك المقاومة أصعب من ذي قبل لعديد العوامل:


1.جدب ذلك العقل السجالي وتعاميه عن واقع ديناميكية وتطور العقل الإنساني، في حالة ولا أفضل لتمثيل عقلية قوم نوح الذين أغمضوا أعينهم متى رأوا سيدنا نوح يبني سفينته، مقنعين أنفسهم أنه غير موجود... بمنتهى الغباء.
2. الاجتهاد بالنسبة للتكفريين إنما هو خروج ومروق عن الملة وليس محاولة تقريب.
3. إن رجال "الاجتهاد" لم يكتفوا في اجتهادهم – أصابوا أو أخطأوا – بمعارفهم الإسلامية فقط، بل أدخلوا إلى منظومتهم الفكرية الإسلامية معطيات نظرية ومعرفية جديدة مستقاة من "الآخر".
4. فكر التحديث*8 إنما هو بث حياة في العقل كفعل إنساني أصيل، وهو ما يستفز التيار المتحجر ( النوحي – نسبة إلى قوم نوح) المحافظ (والمحافظ لفظ قاصر عن إجمال الوصف).

إن أيدولوجيا التكفير وبالرغم من استنادها إلى إرث تاريخي عقدي، تستمد منه طاقته الدافعة، إلا أنها لا تستطيع البتة إنكار حقيقة داعرة الوضوح بالشبقية السلطوية الباحثة عن شرعية "الرمز"، ذلك الرمز الذي جعل الحياة الرمزية إنما هي تعويض عن الحياة الاجتماعية لا ترجمة لها أو تعبيراً عنها، فشرعية "الرمز" المدعاة، والشبقية السلطوية لاستلابها تفترض خرساً في الرمز يستلزم وكيلاً عنه، يتحدث باسمه وباسمه يتصرف وعنه ينوب.
في الأسس التكفيرية:

تنبني عقلية المُكفِر على عنصرين أساسيين يعطيان بنيته التكفيرية حيزها وماهيتها الثابتة وهما:

1. عنصر سياسي: يرتبط بجمل المصالح الاجتماعية التي تمثلها فكرة التكفير وتمنحها الشرعية والسلطة.
2. عنصر معرفي: يتعلق بالبديهيات غير المفحوصة التي تشتغل في وعي المكفر والتي غالباً ما يلجأ حيالها لسلاح التكفير وهو السلاح الأكثر عدمية أخلاقية.

وبقراءة متمعنة لتاريخ عقلية التكفير يمكننا القطع بأن إخراج المكفَر ( من وقع عليه فعل التكفير ) من دائرة الأمة (الروحية ) – جماعة المؤمنين، ليس إلا ترتيباً دينياً رأسياً يقصد به في الأساس – بجانب الاستحواذ القيمي – إخراجه من نظام الحقوق والامتيازات المادية والمعنوية. لذا فالتكفير كفعل أيدولوجي لا دين له إلا المصلحة البحتة، ورفع رأس المال الاجتماعي – الجامع الذي يؤدي لتفكيك البنية المجتمعية لصالح الجماعة أو الطائفة. أي أن التكفير وإن لبس لبوساً دينياً فلا يجب أن يصرفنا عن الخلفية غير الدينية التي تؤسس لها عقلية "الغاية تبرر الوسيلة"، وانعكاسها بمنظار السسيولوجيا الثقافية التي تستلزمها مراقبة مجتمعاتنا العربية وتفضح ظواهرها المادية، وصراعات قواها الداخلية الدينية، وذلك سببه يعود لمقاربة أيدولوجية غير أمينة لـ " مركزية الدين في الهوية والثقافة".
لذا نجد أنفسنا في موقع الرفض لمقولة حنة أرندت *9 إن العنف تاريخياً لم يترك مسيرة خطية واضحة تسمح بضبط تطور تصوراته، فبعد صدور عمل ميشيل فوكو عن المراقبة والعقاب، أضحى بالإمكان صوغ عملية تأريخ حاسمة لتكون الإمكانية "الحديثة" للعنف؛ حيث درس طبيعة التحول الذي أصاب عملية "السلطة" من مجيء الدولة الحديثة، بما أنها في الأساس دولة مراقبة، ما صيَّر طبيعة العنف مرتبطة بهذا الطابع الجديد للسلطة حيث أن العنف ارتقى من عنف صريح خارجي إلى آخر متخف داخلي في عملية مراقبة الأفراد *10، باعتبار الفرق بين العنف كمظهر مادي والسلطة كمظهر رمزي، واحتياج الأخيرة لذلك الأساس المشرعن، في تحويل واضح للأسس الدينية – نصياً التي تفصل بين العقيدة والغنيمة *11.
إن الإيمان بحيازة الحقيقة المطلقة هو المنبع النابض لأيدولوجيا التكفير، والذي يعطيها حيزها الوجودي اللازم لحمى زيادة رأس المال الاجتماعي – الجامع على حساب العابر، فقد تميزت الحضارة الإسلامية بإعطاء الحيز الأفقي اللازم لرأس المال الاجتماعي بنوعيه وحضور الدين الإسلامي فيهما بما يتناسب مع تفاصيل الزمان والمكان الحضارية، جاعلة من عقلية " أنا أكِّفر إذاً أنا موجود" تمظهراً للسقوط الحضاري والسلطوي، وليس تماسكاً فكرياً وعقلياً، ومن شواهد التاريخ:
1. مقولة المعتزلة معبرين عن أنفسهم أنهم "أهل عدل"، مقدمين العدل بتعريفهم "توفير حق الغير، واستيفاء الحق منه" *12.
2. " الرشدية اللاتينية " نسبة لابن رشد والتي أسست بحسب وصف مارتن لوثر لفصل سلطة الكنيسة عن علاقة الإنسان وخالقه، معلناً مولد البروتستانتية.
فمن مقولات ابن رشد: "... ومن العدل أن يأتي الرجل من الحجج لخصومه بمثل ما يأتي به لنفسه، أعني أن يجهد نفسه في طلب الحجج لخصومه كما يجهد نفسه في طلب الحجج لمذهبه وأن يقبل لهم من الحجج النوع الذي يقبله لنفسه" *13.


الظل لا يكشف الحجم الفعلي للجسد المعرفي بقدر ما تعري ظلاميته قدر طفولته الفكرية


إن القارئ لأغلب ما يأتي به أصحاب " العنف المقدس – المؤدلج "، لا يخفى عليه جنوحهم للدفاع عن ممارستين شاذتين:

1. ممارسة السياسة في الدين: بإخضاع الإسلام إلى متطلبات السياسة والمصلحة والصراع.
2. ممارسة الدين في السياسة: من خلال بناء موقع قوي فيها باسم "المقدس".
ومن هاتين النقطتين تتولد الحاجة للعنف – التكفير بحثاً عن شرعية بتلك الممارسات، وسلطة ممارسة المظهر القيمي الذي لا يستوي بنيانه من دون حضور "المدنس" الذي يقابل "المقدس".

فإن كان " الفكر الإسلامي لا يعرف فكرة "رجال الدين" كما عرفها الغرب المسيحي. إنما يعرف "علماء الدين" المتخصصين في دراسته وفقهه، أما بعد ذلك فكل مسلم رجل لدينه " *14. فالعنف إنما هو حاجة لسلطة ترتفع بمنسوب "رأس المال الاجتماعي – الجامع"، لمستوى سلطة الدولة وشرعيتها، ولكن "أن تكون الدولة إسلامية فليس لأنها دولة دين هو الدين الإسلامي إنما دولة المسلمين، ولأنها دولة المسلمين فمصدر شرعية السلطة فيها هو للشعب والأمة" *15.
كما أن "ليس في الإسلام سلطة دينية، سوى سلطة الموعظة الحسنة والدعوة إلى الخير والتنفير من الشر، وهي سلطة خولها الله لأدنى المسلمين يقرع بها أنف أعلاهم، كما خولها لأعلاهم يتناول بها من أدناهم. أصلٌ من أصول الإسلام – وما أجله من أصل – قلب السلطة الدينية والإتيان عليها من أساسها، هدم الإسلام بناء تلك السلطة، ومحا أثرها، حتى لم يبق لها عند الجمهور من أهله اسم ولا رسم، ولم يدع الإسلام لأحد، بعد الله ورسوله سلطان على عقيدة أحد، ولا سيطرة على إيمانه" *16.

إن ارتداد بعض من كانوا بحسب تصنيف ويليام وولكوك "قوارض اجتماعية" إلى بعض "أقطاب" العنف وهيراركيته المقدسة، إنما هو ليس لبنية معرفية حضارية يسجله التاريخ، إنما هو لتجييش مشاعر جمهور ساقط سلفاً تحت وطأة الانسحاق والخلل الاجتماعي وغياب الدولة،" لتخرج من ذلك كله حمماً حارقة تصيب الجماعة والأمة في بقايا وحدتها وتماسكها واستقرارها المدني " *17، لتعطيهم حجماً "كرشويا ً" لا يكشف شيئاً بقدر ما يغطي عنهم أين يقفون في هذا العالم؟.


كان المرحوم ناجي العلي أول من أرّخ لعقليات الكروش العربية باختلاف تقيحاتها الأيديولوجية


***************************************************************
الهوامش:
 رابط المقال على صفحات عرب ال48:

*1: على ضوء دراسة بعنوان:"رأس المال الإجتماعي " للباحث الأمريكي ويليام وولكوك.
M.Woolcock, Social Capital and Economic Development: toward a theoretical Synthesis and policy framework, Theory and Society>
*2: وقد أعيد تقديم كلا البحثين في العدد ال29 من مجلة التسامح الفكرية الفصلية الإسلامية، الصادرة عن وزارة الأوقاف و الشؤون الدينية في سلطنة عمان.
*3: Margret Gelbert , Sociality and Personality , New Essay in Plural subject Theory.
وهنا تفرق غلبرت بين الالتزام الشخصي، والالتزام الذي يترتب عليه الشعور بالتضامن المشترك؛ في حالة الالتزام الشخصي يكون مصدر الالتزام الشخص ذاته، أما في حالة الالتزام المشترك فان مصدر الالتزام يكون خارجا عن إرادة الأفراد-الأعضاء جميعا، ويصبح هناك حق متبادل لكل عضو في المجموعة في الحصول على نصيب عادل من الدعم، في المعلومات التي تتدفق في أرجاء الكيان المؤسسي، ولايخفى العلاقة العضوية بين المعرفة والسلطة.
*4: لدى مراقبة تلك المشاهد – الأيديولوجية المركبة، على الساحة العربية، نلحظ غياب مؤسسات المجتمع المدني لحساب تكوينات الطائفة والعرق والدين، بعيدا عن الإشارة الأهم وهي غياب سلطة الدولة، الداعي لتلك التكوينات للمزايدة على منظومة الدولة وسلطتها، مستفيدة من خطأ الأنظمة عندما عملت على توظيف الدين – المذهب خطابيا بحثا عن شرعية مدعاة و مفقودة، لإستثارة سلطة أيديولوجية الأساس، وتلك عقلية "فرق تسد"، وهي التي أدت لإنتقال عدوى "الغاية تبرر الوسيلة" لتلك التكوينات الأيديولوجية، لتصدر خطابا يستحوذ دور الضحية واستعذاب فكرة الإضهاد ولو كذبا.
*5. بحسب تعبير د.محمد عابد الجابري – العقل السياسي العربي.
*6: راجع كتاب القسطاس المستقيم لأبي حامد الغزالي و الذي نادى فيه الوالي بقتل الباطنية لأنه بهم مس من الشيطان لا يزيله إلا السيف.
*7:The Marx – Engels Reader , Robert C.Tucker ,Norton
*8: وليست الحداثة.
*9: حنة أرندت: في العنف، ترجمة إبراهيم العريس، بيروت دار الساقي،1992
*10: Michele Foucault, Surveiller et Punir, Paris , Gallimard.
*11: حيث آيات " العقيدة " هي الآيات الأولى التي نزلت من القرآن الكريم تبشر الرسول (ص) بالرسالة وترد على طعون قريش وتعرض أسس العقيدة مؤكدة وحدانية الله لا شريك له، حيث ركز القرآن الكريم في هذه المرحلة على قضايا ثلاث: الوحي والتوحيد والآخرة بأسلوب بياني بليغ يعتمد التكرار والجمل القصار ونوعاً من السجع الخاص في الصور الفنية، ومشاهد حية تجعل منه أرفع درجات سحر البيان ( سيد قطب، التصوير الفني في القرآن الكريم )، والغنيمة هي الآيات التي انطلقت منها العقلية النبوية جاعلة من المختلف القيمي مصدر غنيمة كما جاء في وصف الطبري في كتابه الأمم والملوك وابن هشام في كتابه السيرة النبوية.
*12: قضايا في الفكر االمعاصر، د. محمد عابد الجابري، مركز دراسات الوحدة العربية.
*13: المصدر السابق.
*14: حتمية الحل الإسلامي: الحلول المستورة وكيف جنت على أمتنا، د. يوسف القرضاوي.
*15: راجع راشد الغنّوشي، الحريات العامة في الدولة الإسلامية، مركز دراسات الوحدة العربية.
*16: محمد عبده: الاعمال الكاملة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت.
*17: رفعت سيد أحمد: النبي المسلح – الرافضون، رياض الريس – بيروت.