Sunday 30 October 2011

من هوامشي (4): فراسخ الخلود المهجورة بين موتنا وحيواتنا (والموت جمع بصيغة المفرد).


لقد أربكنا أن مايتفوه به موتى المصادفات يستعصي على فهمنا ، وحيرنا أن الرجل الشاحب و الشاب يصغيان إلى المجادلة الصاخبة بين الحلقات البشرية، هناك، ويهزان رأسيهما موافقين، أو يتذمران، مما يجعلنا نقترب أكثر من أولئك القتلى، فأدركناهم، يتخاصمون في اختيار القضاة.
كانوا على أهبة المرافعة عن ميتاتهم. وكان واحدهم إذا شَهَّدَ الآخر ليدعم كلامه خذله الآخر، مرافعا عن نفسه فقط، حتى انقسمت الحلقة الواحدة على كيانها، فتنافر المجتمعون، مهددين، قبل أن تعقد المحاكمات أو مايشبه محاكماتٍ. ثم تواجهوا خبط عشواء، رافعا كل شخص إلى من يواجهه، في كفيه، الشطايا التي قتلته، وكأنما تجري مقارنات، وحساب فروق في الأوزان. وكان واحدهم إذا أعيته حجته، وبراهينه من الشظايا المعدنية، ضرب الرمل بعقب قدمه، فينبثق الدم ساخنا، وهو يشير، بعد ذلك، بأصابعه إلى ما إنبثق من السائل الأحمر داعما به حججه .
كان على قتلى كثيرين أن ينتسبوا إلى هذه الجهة مرة، أو إلى تلك الجهة كرة أخرى، بحسب ما يترجح من كفتي الميزان. أي تحديدا، ما من غلبة إلا للموت. أما انتصار الأحياء فمؤجل بنعمة الإرث الهائل من غدٍ مهزوم سيلي غده المهزوم في تعاقب هندسي حتى يومكم هذا ، وذاك.


من وحي "أرواح هندسية" لسليم بركات

Monday 24 October 2011

الطين نص معماري


أن تُسأل (ماذا تعني لك المدينة ؟)، هو نوع من الأسئلة الملَّغمة و التحريضية في آن، فهي تمنحك حيزا من الحرية و التعالي بما تقدمه من علاقة خرائطية مع المكان (ومافيها من دلالات لونية) تغري البصر وتغني الصورة ، وتغوي التأويل بجمالية الخطئية (الإنفصال)، وذلك في حد ذاته حالة جمالية تستلزم قدرا عاليا من الحياد و الموضوعية، وعدم الإنجرار إلى غواية جمالية تستوثقها إجاباتنا حرفا مكتوبا بلغة خفيفة متطايرة في فرط تماسكها الجمالي الحر.
أما الجانب التحريضي من التساؤل ، فيتمثل في كونه دعوة صريحة لقراءة تأويلية وتأملية في تفاصيل المكان/ المدينة/ الخريطة، باعتبارها نصا يتمظهر لمسا ومسا لغويا في مفرداته: البشر و المعمار والمسافات المجتمعية فيما بينهما، و إنعكاس ذلك على القيمة و المدلول والتحرير ، باعتبار أننا كائنات مكانية، تتحرك و المكان في البعد الزمني وحرية الفكرة .
الجانب الخطير الآخر من هكذا تساؤل ، أنه لا يأتي وحيدا ابدا –وإن إدعى- ، فالمكان هو حضور الغائب فيه، وحالة من التعيين والتحديد تحددها تجاذبات العلاقة بين حاضره وغائبه.
سؤال الذات عن تمثلات المدينة/المكان ودلالاتها ، يحولها، إلى موضوع متسام عن مدركاتنا المدنية في جانبها المادي، فيحرر –السؤال- المدينة /المكان من صلابة "الوظيفية" البيولوجية و الإثنوغرافية -في سلم آخر-، فتصبح المدينة/المكان حيزا تعبيريا بقدر ما تحقق القيمة المعمارية والمجتمعية و التاريخية قيميا، بقدر ما كان للمدلول الإنساني لها حرية أكبر وقيمة أكبر.(وهذا هو سبب المزاوجية في المتن السابق بين حرية "المكان" واتساع حدوده الميتافيزيقية ومحدودية "المدينة" لغرض معماري بحت).
فالمكان/المدينة كيان مركب، يغلب عليه الطابع اللغوي، وعلاقة الإنسان به هي علاقة طينية بمنطق المزاوجة بين الماء و الطين ، وتحرر الصلصال من وطأة المعروف من الشكل، لذا فالمسافة بين الطرفين هي مسافة تعبيرية ، يحددها الإنتماء الطيني.
تصعب الإجابة على هكذا تساؤال في مدينتي التي يسير سكان أماكنها فيها –بمعزل عن مكانهم- وأبصارهم شاخصة في قلق وجودي في موطيء أقدامهم لاتعلوه حلما بقدر ما تتدناه خوفا، غير قادرين على رؤية الفلك المشم في المتون المرفوعة بين أرضهم وسمائهم، إما عن إحساس مفرط بالذنب تتقاذفه عيونهم فيما بين مسيرهم في عروقها، يوسف وذئب، وإما استسلام لوطأة حياة حوَّلت الظلال قوام لمس للضوء، فعطبت الثابت من الحياة و الموت.
في المدينة، إجتماع شذراتنا المائية في لحمة الجسد المائي في جريانه اليومي، بكامل إتفاقه، وتواطؤ جاذبية المدينة تارة معه وأخرى ضده ، جريان يوسوس لنا مجيبا نداء الطين فينا نحن بشره ، وبذره.
إن المدينة/الطين التي لا يؤول بها بذرها/بشرها، و البشر الذين لا يحررهم تأويلهم الطيني المتَّمدْن ، هم اغتراب المعنى عن ملموس اللفظ.
****************************
قال لي حرف/حجر، شق فتقه اللفظي من جسد النص المعماري في مدينتي ولم يكن ببالي مرآه سقطاً كغيره:
أنا انعكاس نبضك المائي في الطين ، وأنت وبنو طينك تعتزلونني في طقس حداثة الطين الكذب، ولا أدري لمَّ، ألمقتلة سياسية ومجتمعية وطأتكم؟ أي الأحمال تلك التي تحملونها على أكتفاكم، تكسبكم خرسا مزهوا ؟
نظرت إليه وهالتني تفاصيله الحاضرة، لاهوادة فيها، لا وقت فيها إلا ظلاً، ولاظل فيها إلا وقتاً. أعطته تعاريفه المظلولة تفاصيل اللاموصوف من قصور إدراكنا ، نحن قاطنوا نصه، متأملون –والجمع دلالة فقد الحضور الفرد هنا- الغمر الساكن في الشكل.
ومساً أصابتني هوة البعد المختصر مكانا وزمانا في لمسه، واستوثاقه بصرا، فتوقف النص الطيني عند أول الطين و أول اللمس ..كم أهملناه و أهملنا، فسقط الزمان بيننا على جسد وفاء الموصوفات لللامحتمل مكتوما، لايبعثه إبصار حواسنا ولا كثافة فقدنا.
هاله صمتي ، وكتل الزمان و المكان بيننا رخوة من فرط نهب مدننا، فقال:
أللحيرة جسد؟
قلت: بل للجسد حيرة ونص، في كون أغمض عينيه عن أجساد يلمحها ونهابها ، وبيننا خلسة و آية ومنطق الحديد.
قال: أين اجسادكم الحائرة، ومرآوية الزئبق الكاذب تغطيها وتحيطكم، تُفْرطون في وثنية الجسد، بقيافة النص الجسور –شكلا- في تقييد البعد. عبث أنيق هو نصكم ، ومرآوية الزئبق فيه لا تخبر إلا ماأردتم من الكذب ، ومعتقد الرماد في سرديات اللهب البارد. فالزئبق هو نبض الهروب الأزلي.
نصوصكم/عرَّافوكم، أصواتكم التي تثير حفيظة السماء..أخرستموها ، فلتعودوا إلى مائكم / مَنِّيكم، فزجاجكم الزئبقي لايقول إلا مايطلب منه، كوزير الوالي وجبريل السماء..وهنا هو قوَّاد الحي إلى جمالية العدل الإنساني المنهوب.
تدخلون أجسادكم الفضية/ الزئبقيةعارية اللون و المعنى، حتى الشمس –أصل المعنى و الأنوثة-  لا تُعْرِّفها، شؤونكم فقدكم النصي المقدس، تسرقون من أنفسكم خلسةً خلسة زمنكم ، و ألق الآخر. مثقلة متونكم بآخْرِّكم ومنحسرة هي ذواتكم، يطغى حاضرها الملول بقناعة ماضيكم.
و بين كل ثرى وثريا عرَّاب هزيمة منتصرة، يتوج الرماد بالرماد، يبيع لهاث صلصالكم، يتلو عليكم تراتيل إله المعدن، يسرق سمائكم ليحشو بها منطق ملابسه الداخلية معدنا ، في زمن الأبوة المقدسة.
جائكم من قافلة حكماء يدربون صغار الموتى على خيانة أنفسهم ، كلما إطمأنوا إلى أنهم أبناء نسل خان حيث قدر على الخيانة. موتىً هم حيث أنجز كل واحد منهم معجزة موته ثقة بانتصار الموت فقط، فعادوا بخرائط جليلة للعمران حول حدائق الموت، خرائط من ريح ومن دوي الصدوع المهولة ، و إنهيار سفوح المعنى.
قلت: أهذا كل ماتراه؟
قال: كلا ، فللنص بصر، لايراكم ، ويتنبأ.
فضاؤكم بلا أمكنة ، وزمنكم بلا ديمومة ، حضوركم في معماركم هو عَرضُ اللهاث من النفس، هو خروج وهروب على الدوام، ذاكرة مضطربة في هزائم المكان المنتصرة. تتلمسون هَوِّياتكم تحت الدروع الذكورية بيد من ضمادات نصوصية لا فضاء فيها، و الهوية صلصال وطين وأنثى حرة ومقاومة.

أخرستني كلمات وصفه، راكدة تنتسب للمكان عن المكان، أي مرآة تلك "أماكننا"، أي نصوص هي التي تعري فينا خوفا ممسوسا ، لا تعوزه إلا مصادقة الموتى من الحياة.
في البلاد بلادي ومكاني خيال يحيا متذررا على حد سيف وشرعة كاهن، يهرب متنكرا في نصوص جسدية لاتهادن أرواحها، ولا أفكارها، بلاد القناعة فيها أول القهر.
بين خيال منتهب وقناعة مسلوبة، يصبح للطين هاجس الأشكال، فيدفن إفتراضه الطفل. تنقصنا حرية اللغة، الكسولة كالديمومة، بين ذواتنا وقشرة الموت اللغوي فقدا. لغة رقيقة تخرج من فروج إناثنا، وتسامي تائهن في هواءنا، لغة لا تحتجب لذئب ولاتتماهى ظلاما لخصية، لغة لاجزية لمطبقاتها وتورياتها، لغة لا لواقعها عليها سيف وشيخ، هي كل لزومنا لوأد غيابة الطين في معمارنا وصلصالنا.
نصوصنا/طينتنا سردية تواريخ الفقد المشكول الوصف، هندستها أختام السديم الجمهوري و الملكي حولنا سجناً ، بأبدان قيدٍ لقضبانه أثير الملمس وشيخه، وعبادة التمر، في علوم المفقودين في ثنايا مخمل المجلس ، وزمن الفيلة.
نصوصنا، خروج الإسم من خطوط الكف و الرقم، عودة التأكيد المنهوب على الوجود. أي النصوص تلك التي يساءلني الحرف فيها عن فقد المنظور من المعنى، أي تساؤل كهذا، يقف محدقا في جرائم اللون و الرمز في فينا؟
عندما نقع عبيد وصوف حواسنا وبيولوجيتنا الأزلية أيديولوجيا، فطبيعي أن نهاب حرية اللاموصوف، وخيالنا وقع المنهوب منا فينا. حينها يصبح الحب لمنطق النص ضربا من جنون الخيال وتبذير المنطق، متحررا من وطأة القيد و المنفى لغة، حضوره كرم القاعدة المضطرة شذوذا.
منحوتنا الحرف، خيال من نبذٍ معمارية هي نصوص موتى وعماء أيديولوجيا، هو أقصى حضور الألفة المجزوءة من فقد الكل.
قال الحرف مستوثقا من غضب نصه الصامت:
خيال له قوام الرمل، نبذا لاتكتمل سرداً، حيواتكم فيه لاتأكيد فيها إلا على حرية الموت، فلتعودوا لباديء الهوية ومنتهى التجاذب، تلفظوا مائكم، فمتى تلفظتم الآخر كان ومتى تلفظتموه كنتم حرفا من نص حر..أنتم، فالموتى لا يلمسون الموتى ولايتحاورون في الوثنية. نصوصكم/معماركم إنتهاك خريطة من ريح وحبكة بلاحكاية.
ثم وضع حرفه بين خطوط يدي ، وملمس الإسم الإلهي كفاً، وقال:
فيك نبضة قلب تائهة، تنادي حرية المطلق في جسد مغترب نصا.
اعترفت:
أحبها بقدر ما أهوى خرائطها ويغويني فقد اللون فيها بين رمادي بخيل وأسود مفرط في الكرم السلطوي، فتحررني ألوانها المنتهبة رمادا طائرا.
قال: لاتتركها إذن، تغدو حكيا أنثويا، يعوزه ذكورية اللفظ، ليتحرر المعنى من وطأة الهروب، لاتفعل لكي لا ينتصر العدم على العدم، وتعود كيمياء المدينة كيمياء متون رطبة..فقط.
ورحل حاضرا.
فتذكرت حينها مدننا المنهوبة و المحتلة، أتراهم يسمعوننا، وماذا كانت لتقول لنا حروفهم، التي تستجير بدعاء الظلام المتصبب حولها فيمنحنا خرسا تهتز له أعراف الضوء ، وتلفيق تاريخنا للظلام..ظلامنا.