Monday 27 February 2012

بين "بسمة" "موناليزا" و "وليد"


 من منّا لم تستوقفه عبارات السيدة بسمة قضماني ، عضو المجلس الوطني السوري في حديث لها تناول –فيما تناول- فلسطين و إسرائيل في سياق إنساني يتدثر بالأمومة و البنوة ، في لقاء متلفز جمعها مع بعض الكتاب المدافعين عن "واحة الديموقراطية" في المنطقة. حيث تصف رغبة الطفل الإسرائيلي في أن يحادث "إبنها" عن السلام ، وحاجتنا –كعرب- إلى "هدم الجدران"
]عنوان كتابها[ عن طريق "الثقافة اللاقرآنية"  ، تلك الجدران التي تعتبر مرآة للغيتو، والتي ترى قضماني أنها تمنعنا عن مقاربة حتميات لابد منها ، كـ"وجود دولة إسرائيل في المنطقة".
ولعل التعامل مع ذلك الخطاب ، وكأنه غير مرتبط بسياق يعيطه حيزه الوجودي كنموذج للخطاب النيوليبرالي المعولم، و القائم على تذرير القيمة الإنسانية تحت نفس المسمى : القيمة، ولا قيمة أعلى من الأمومة و البنوة والطفولة، وبالذات في بلادنا التي عانت وتعاني من إرث من الطغيان و القهر و الإستبداد ، تبدو معه تلك "الواحة" جنةً، لا يجب أن تخفى عن أهداف الثورات وسياسات مجالسها الوطنية.
إلا أن منطق قضماني ، لا نراه بعيداً عن رؤية عميد المستشرقين الجدد برنارد لويس بشأن الحراك الثوري العربي في مقالة له في "جيروزاليم بوست" (25 شباط 2011)، يعزو فيه الحراك العربي إلى الظلم الواقع على المواطن ، ويضيف عليه عاملين آخرين: الأول انتشار وسائط الإتصالات والإعلام ، و الذين أديا إلى نمو الوعي بحجم الفارق بين الأوضاع "العربية" وأوضاع سائر العالم ، و العنصر الثاني هو "الكبت الجنسي" ، لتصبح حينها "الشعب يريد إسقاط النظام" عبارة أريد بها ، فقط الزواج للشباب العربي الثائر، وكبح جماح ذلك الـ"كبت الجنسي"، وبالذات إذا كان الأمر سينتهي بهذا الحراك إلى بيت يعي أطفاله الحاجة الإسرائيلية الطفولية "للسلام"، ولا يرى لويس أن الديموقراطية حاجة مهمة الآن وبالذات أن العرب "ليسوا جاهزين بعد لانتخابات نزيهة" (برنارد لويس وليس عمر سليمان!!!)، و أن إنتحار البوعزيزي لم يكن إلا لأسباب "بيروقراطية".

وعلى هذا المنوال في الخطاب السياسي إعلامياً، ذا الجذر المادي في تناول "المواطن العربي" ، جاء تقرير تلفزيوني آخر على محطة عربية (إم بي سي) منذ مايزيد عن الشهر و نصف، بعنوان: "أول فلسطينية تخدم في الجيش الإسرائيلي" ، كانت "موناليزا عبده" ، التي قدمها التقرير باعتبارها من "عرب إسرائيل".
التقرير لا تتعدى مدته الدقيقتين ، إلا أن ريحاً إستشراقية تفوح من حروفه ، بداية من توصيف الفلسطينيين بأنهم "عرب إسرائيل" وهي متلازمة لم يسلم منها خطابنا العربي في أغلبه ، وصولا إلى وصف جيش إسرائيل أنه جيش "نظامي" وليس فقط "دفاعي"(!!!) ، مهمته كأي جيش "نظامي" في العالم حماية حدود "واحته" من المتسللين من الصحراء القاحلة المحيطة به والمخدرات ، لا بأنه جيش عصابي منظم لم يترك قاعدة أخلاقية ولا قانونية ولا حقوقية ، إلا وكسرها، ولا جريمة إلا وغرتكبها ، ومنطق "العدو" لديه لا يعي الفارق بين الطفل و المقاتل.
هو جيش تلك "الواحة" التي يعد كل مواطنوها جنود إحتياط ، سواءا بالمنطق العسكري أو المدني (جيش المستوطنين بحماية مؤسسات الدولة) ، ولكن يغفل التقرير طبعا مقاومة الفلسطينيون لمحاولات تذويت هويتهم الوطنية و اللغوية و حتى المكانية في الدولة ، بأن قدم "موناليزا عبده" على أنها الشاذ من القاعدة ، العائد إلى حظيرة منطق القاعدة ، وكأن التقرير يعلن بداية عودة الخارجين عن نظامية الدولة ومؤسساتها وجيشها ، لحضن "دولتهم" ، فيستحقون حينها كموناليزا أن يكونوا "محاربين" ، بكل ما تحمله الكلمة من استيهامات وشحنات استشراقية ، تستظل بظل لغة "صراع الحضارات" ، وكان من الطبيعي أيضاً ، أن تكون "موناليزا" المسيحية أقدر على تخطي ما أسمته بسمة قضماني في حوارها "الثقافة القرآنية" ، فغدت أقرب لنظامية الدولة منها لـ"عرب إسرائيل" ، خاصة وأن الدولة الإسرائيلية لا "تجبرها على الخدمة في الجيش"، بل هي التي التحقت بإرادتها حسماً لإشكالية هوياتية يضطهدها "الجميع" بسببها(!!!) متعللين بأن الجيش الإسرائيلي هو جيش "إحتلال" وليس جيش "دفاع" ، أو طهكذا يقولون".
إن البنية الاستشراقية في خطاب "قضماني" و تقرير "موناليزا عبده" ن لا وظيفة له إلا التستر على النقطة المقتل في البنية الكولونيالية في الدولة الإسرائيلية ، نقرأ مثلاً من الموسوعة الكولونيالية الغربية: "الجنس مركز الهشاشة في قلب الكولونيالية، فهو يزعزع تصنيفات العرق ، و الطبقة ، و التراتبية التي يؤسس عليها المستوطنون الهوية الفردية و الحقوق و الواجبات".
لذا كانت عملية إنشاء الحدود و حمايتها الهاجس الاول للدولة الإسرائيلية التي "نحتاج إليها" بحسب قضماني ، ومن هنا يمكن تفسير الكثير من الاجراءات التي تقوم على أساسها الدولة الإسرائيلية ، فالطرق الإلتفافية الخاصة بالمستوطنين في الضفة الغربية ، و الجدار العازل، وإغلاق المناطق المحتلة في الأعياد اليهودية، وهدم البيوت وترحيل الفلسطينيين ، و السجن الإداري، وسجن المراهقين ، ومنعهم عن مدارسهم،  لا باعتبار ذلك ممارسات أمنية ، بل هي ممارسات مادية ورمزية تقوم على الاقصاء و النفي ، إذ تخلق حدوداً فاصلة بين الجماعة اليهودية المهيمنة  و الفلسطينيين  لحمايتها ، وضمان "طهارة" "الفضاء العام" للجماعة المهيمنة ، و التعبير عنها مكانيا، فالهوية الاجتماعية تنشأ في سياق الانتماء لجماعة معينة ، ويزداد ميل الأفراد المنتمين لتلك الجماعة في سياق هيمنتهم للحط من قيمة الجامعات الأخرى ، عن طريق توظيف بنىً وصوراً نمطية تشرح الآخر ، وهي بنى استشراقية في حالتنا هنا ، وذلك كوسيلة لتحقيق التماهي وتعزيز الاحساس بالانتماء للمجموعة ، وغالبا ما تنتج ديناميات نفسية و اجتماعية تتحول إلى رهانات حقيقية كلما أصبح قانون الجماعة المهيمنة هو المرجع والحكم في الفضاء الجامع، وبرعاية الدولة ومؤسساتها.

لذا يبدو أن "قضماني" و "موناليزا" ، وهنَّ يحررنَّ أنفسهنَّ بالاستعارات، لم يفكرنَّ في غيرهنَّ ممن فقدوا حقهم في أن "يكونوا" ]بحسب منطق الشاعر م.درويش[ ، ولم يتوقفنَّ كثيراً أمام شواهد اسرائيلية تعري إدعاء إسرائيل أنها دولة وجدت لتخلص يهود أوروبا من تبعات الفاشية و النازية، فأصبحت تماهياً معهم. فالعريضة التي وقع عليها مجموعة من الحاخامين اليهود ، و التي تطالب بعدم بيع أو تأجير بيوت اليهود للعرب، وأيضاً تلك العريضة التي قامت بضع حاخامات (سيدات زوجات حاخامين) باصدار نداء يدعو الفتيات اليهوديات إلى الامتناع عن إقامة أي علاقة بالشبّان العرب، في تحقيق لجملة استير فوكس "حدود الأمة منقوضة على أجساد النساء" ، تلك العريضة التي صاحبها مظاهرات ، وظهور ملصقات على الحوائط في مدينة بيت لحم كُتب عليها: "لن أسمح لهم بمغازلة أختي، ماذا ستفعل أنتَ لو غازل عربي أختك؟"، فأصبحت تلك العرائض تماهيا مع النازية التي إستندت فيها قوانين "نورمبرغ" على نقاء العرق النازي، وقوانين حظر العلاقات الجنسية بين البيض و الملونين في زمن نظام الابارتايد في جنوب أفريقيا.
ولعل أكثر مايؤكد ، محاولات الدولة الممأسسة لنفي الفلسطيني رمزياً ومادياً من حيز المكان، بل ونفي الفلسطيني منه ، هو رفض المحكمة الإسرائيلية في الناصرة طلباً مقدماً من الأسير وليد نمر دقة في الحصول على حقه في الإنجاب ، و الأبوة، وبالذات أن وليد أمضى من سنين عمره الـ52 مايزيد عن الـ26 عاما في الأسر . وقد عللّت المحكمة رفضها لطلب وليد بأن الطفل حينها سيمثل "خطراً على أمن الدولة"، وهنا تكمن المفارقة ، فقوة دولة الترسانة النووية ، وجيشها الدفاعي ، ومؤسساتها، وسماءها التي إختارت شعبها ، تهاب من وليدٍ حلم، لم يأت بعد.

ملاحظة : لعل الحراك الثوري السوري الخارجي في أمّس الحاجة ، لتطهير خطابه السياسي من وجوه ورموز لا تملك الحسم اللازم لقضية حيوية وهامة بالنسبة للجسد السوري و العربي الثوري ككل ، ألا وهو القضية الفلسطينية، بعيدا عن نبض الشارع السوري الحاسم في علاقته مع فلسطين و الجولان المحتليّن.



Friday 17 February 2012

تأملات في بنيان درويشي (1):


"لست من الذين ينظرون إلى المرآة برضا، المرآة هنا هي انكشاف الذات في صورة صارت ملكية عامة.. أي صار من حق غيرها أن يبحث عن ملامح ذاته فيها. فإذا وجد فيها مايشبهه أو يعنيه من تعبير وتصوير ، قال: هذا أنا. وإذا لم يعثر على شراكة في النص/الصورة أشاح بوجهه قائلاً: لا شأن لي!"

في العبارة الدرويشية تلك من ديوانه "حيرة العائد"، كان التعبير الأصدق لشاعرنا في مرآوية النص الشعري، وما لذلك من تحرر مكاني و زماني ، دون تمام الانفصال. فدرويش القاطن بين الانسان و الشاعر، الذات و الموضوع، النص و المتلقي، الوجه و المرآة، يدستر بالشعر حياة النص ومتلقيه كمشارك فيه أو "شاعره الآخر".
وبين ثلاثية الشاعر / النص/ المتلقي ، عوالم ، لايتنبأ بها إلا نبي أقرب للشعر منه للنبوة ، في زمن طوفان نوح :

"هكذا الشاعر، زلزال.. واعصار مياه
ورياح، و إن زأر
يهمس الشارع للشارع، قد مرت خطاه
فتطاير يا حجر".

هو ذاك التحرر الشعري ، الذي جعل من النص الدرويشي تواطؤاً مع السماء، وكأنه "أتى كنبي من عالم آخر وحلم مختلف. علامة بعثت من قوي أعلى ، حتى هو لم يكن واعياً بها"..

"فما حيلة الشعراء يا أبتي
غير الذي أورثت أقداري
أن يشرب البؤساء من قدحي
لن يسألوا من أي كرم خمري الجاري".

فبانتفاء السؤال –الجهوي/القيد/النافي- هاهنا ، تتحرر الرؤيا من قيد التأويل و الجغرافيا، فـ"تتعمد بغيم البحيرة" تحركها "الريح ، و الريح حظ المسافر" لتصبح "مجاز سنونوة" ، فتصير القافية تحررا من شرطية الحظ / النبوة ، الله:

"قصائدنا بلا لون
بلا طعم بلا... بلا صوت!
إذ لم تحمل المصباح من بيت إلى بيت!
وإذا لم يفهم "البسطا" معانيها
فأولى أن نذريها
ونخلد نحن... للصمت!".

أولاً : في التحرر والاتحاد ، في "الإثنينية/المزاوجة" الشعرية :

نطأ الجسد الشعري الدرويشي ومرآويته، لتطل علينا "إثنينية" التفاصيل: "لأحمد المنسي بين فراشتين"، "وأحمد، كان اغتراب البحر بين رصاصتين"، "من لغتي ولدت على طريق الهند بين قبيلتين صغيرتين، عليهما قمر الديانات القديمة". وبعيدا عن الرحلة الصوتية التي تؤمنها تلك الإثنينية، ومحطاتها التوكيدية، فهي تخلق حيزاً من الإتحاد، يبدأ لفظا ويتأكد صوتاً فمعنىً، اتحاد يتشكل في المسافة بين مزاوجة طرفين: نسبي ومطلق، يجمعهما الرسم و الإسم.
هو فعل "الإسرار" بين بين "رصاصة" و"رصاصة" ، "فراشة" و"فراشة" ، فيتحرر الخطاب الشعري من ثبوتية المعرفة وسطوة الخطاب، إلى فضاء التخييل، فتعود اللغة الشعرية أفلاطونياً : "اللغة العليا للعالم".
ولعل تلك "الإثنينية" هي التي حررت الطروادي الدرويشي معرفيا من شفقة الشعر بالشعر، فـ"إحدى مآسي طروادة المرتكمة هي أن أحدا لم يبحث عن الألواح التي دون عليها شاعرها سيرتها، (...) وسوء حظي (في أنني لست طروادياً) هو أنني لو كنت ذلك فسأكون موضوعاً أنثروبولوجياً، لا لشيء إلا لأن علماء الإغريق قد إرتاحوا إلى إنتصارهم فأحبوا أن يضيفوا مزايا إنسانية على ضحاياهم".
ان حالة الحوار التي تخلقها "الإثنينية/المزاوجة" الدرويشية ، تدفع بنا إلى البحث عن البدايات و النهايات معاً ، بين أصل وصورة ، و الرابط بينهما سردية ، هي مزاوجة مرآوية ، تخضع لتأويل الرائي، كعالمين بين "ماقبل الطوفان" و"مابعده" ، و الخلق واحد في الحالتين ، إلا أن سردية النبي هاهنا تختلف حتما عن سردية الشاعر.
وهنا يتكشف لنا بعد ميتافيزيقي آخر في النص الدرويشي "الإثنيني" ، له زمنيته التي تتحرر من سطوة الرمز إلى بساطة الحضور : "رأيت شهيدين يستمعان إلى البحر" ، " أنا آدم الجنتين ، فقدتهما مرتين" -فيتحرر الفقد هاهنا من مناعة السماء و الثيولوجيا- ، "أمشي على حافة البئر ، لي قمران / واحد في الأعالي و آخر في الماء يسبح (...) لي قمران/واثنين كأسلافهم من صواب".
"الإثنينية/المزاوجة" الشعرية الدرويشية هي  استراتيجية شعرية –من عديد- تقلل ضحايا النيران الصديقة في الشعر ، إذ تنطلق من "حاجة الشعراء للغد و الذكريات معأً" ، في مواجهة "لا مبررلها" بين الضمير و الجمالية، من دون خيانة المعرفة وتقويض الحواس. فضاء جمالي حر ، أكبر من محسوس/النسبي/ المبتدأ، و أكثر صلابة من المتخيل/المطلق/المنتهى، فالهوية في "الإثنينة" الشعرية هي "بنت الولادة ، لكنها في النهاية إبداع صاحبها لا وراثة ماض" فـينتمي إلى "سؤال الضحية". فضاء الضروري بين زمنين "إثنين"، لكسر استحواذات الثنائيات الساكنة فينا ، كمتلقين للنص الشعري ، وبالمنطق الدرويشي "الشعراء التاليين" له.

ثانياً: الأرض / الإله:
نخرج من النص الدرويشي على رؤوسنا "فتات حلم"، وعلى ملابسنا ولغتنا ذرات من جنة مائية الخلود، فحضور الله في أرضه يتحرر من فرط اللمس موجز الرمز ، إلى مجازه الحر ، في ملمس الرمز "الكواكب" "النبع" "السماء" "الأرض" "القمح" " البئر"، كلٌ كتب بتكليف من "الغياب"، لإسم الحضور و رسمه.
في الجسد الشعري الدرويشي ، توق عذري إلى "البدايات" و "الجذور"، في الأصل "المؤنث" للأرض، وهي ليست وصفّية يتحرك فيها الرمز الشعري أفقيا فقط. تلك "الجذورية" في الرمز الدرويشي للأرض – لمساً- ، تجعل من النص "سفر تكوين" ، عائدا بنا إلى الحرية في طفولتها في مساءلة الأرض/المعنى/الجذر /الله ، "لا لشيء سوى لنحترم القيامة بعد هذا الموت".
يدفعنا الإنزياح الدرويشي "للبدايات" : "أول الأرض" "أول الحب" "أول الأغنيات" "أول السطر" "أول الدمع" "الرحلة الأولى للمعنى"، ذلك المعنى الجامع بين فوضى القيامة وشطريّتها ، وتراكبية الحياة الإنسانية ، حتى قبل الإثنينيات المتقابلة:

"لابد من ذاكرة/لننسى ونغفر حين يحل السلام النهائي فيما بيننا وبين الغزالة و الذئب".

أي قبل أن يتسبب بنو بشر، في التفرقة بين الأضداد، فاختل المعنى ، هو المعنى/ الله الزمن الشعري الذي يقتبس ديمومته من الزمن الديني ، قبل أن تضرب العلاقة العمى و الرؤية، الصفر و العدم، زمن ماقبل ميل الأنبياء إلى كفة الصليب بعد حسم الطوفان، و الأرض و الإنسان واحدان ، ومايحتاجه ذلك من وجود راءٍ أو عالم ٍ أو شاعرٍ ، ليحمل كفوفنا الإنسانية حملاً إلى بداية الرؤيا ، فنرى إذ يرى ويقول:

"رأيتك أمس في الميناء
مسافرة بلا أهل بلا زاد

رأيتك في حبال الشوك
راعية بلا أغنام
مطاردة في الظلال

فلسطينية العين و الوشم
فلسطينية الإسم
فلسطينية الكلمات والصمت".

وبين تذرر الشاعر /الرائي في المنافي وعلى الحواجز – وإن اختلفت لغاتها ولهجاتها – يتحد ويكتمل في السعي لأرض / معنى/ إله - ذلك السعي الشعري كـ"هدهد على فوهة الهاوية"- الذي ينطوي على شكل سردي حكائي، يجعل من المنفى حالة اتحاد مع الوطن –لا اكتمال- ، فيظهر البعد الهوياتي للمقاومة كفكرة شعرية، متجوزة، فتنطلق الهوية معبرة عن النسق الهوياتي الفلسطيني و الإنساني معاً، لجذر أرضي/معنوي/وإلهي واحد، فـ:


"لا أَقول : الحياة بعيداً هناك حقيقيَّةٌ
وخياليَّةُ الأمكنةْ
بل أقول : الحياة ، هنا ، ممكنةْ
ومصادفةً ، صارت الأرض أرضاً مُقَدَّسَةً
لا لأنَّ بحيراتها ورباها وأشجارها
نسخةٌ عن فراديس علويَّةٍ
بل لأن نبيّاً تمشَّى هناك
وصلَّى على صخرة فبكتْ
وهوى التلُّ من خشية الله
مُغْمىً عليه
ومصادفةً ، صار منحدر الحقل في بَلَدٍ
متحفاً للهباء" ...

و"المصادفة" في الشعر وزن للقافية ، فيصبح الطريق للوطن محض قافية شعرية، بدونها لا يزول الحصار:

"سيستمر هذا الحصار
إلى أن نعلم أعداءنا
نماذج من شعرنا الجاهلي".
إن "أنا" الرائي في النص الدرويشي هنا ، هي الأنا الهوياتية للأرض، محض إتحاد لغوي/ذكوري في الأنا الشعرية ، مع الحكي/الأنثوي في المعنى :الأرض ، إذ يقول:

"ولستُ أنا مَنْ أنا الآن إلاَّ
إذا التقتِ الاثنتانِ :
أَنا ، وأَنا الأنثويَّةُ".

فيما يتمظهر في فلسطين التي خلقها الشاعر ودلت عليها القوافي بـ"أنا"ه:
"سيل من الأشجار في صدري
أتيت... أتيت
سيروا في شوارع ساعدي ، تصلوا!".



في وصفية هوياتية للأرض /الهوية ، اللازمة لتحرر الذات الكولونيالية بين "إتيان" تؤكده الإنثينية ، و"وصول" ، فتتجاور وتتعالى الأرض/المعنى حينها على كل قوالب التعريف ، بما يمكن أن تمثله المعرفة حينها من أداة سلطة :

"أنا الأحياء و المدن القديمة
حاولوا أن تخلعوا أسماءكم تجدوا دمي،
أنا الأحياء و الوطن الذي كتبوه في تاريخكم".

لتتحرر الأسطورة ، التي تعطي الحسم في علاقة الذوات الكولونيالية، بين "وجود" و"تأويل" ، حيث "الوجود" مغلوب ومقتلع بـ"التأويل"، فيتمكن الجسد الشعري هاهنا من من عكس حركة التأويل لصالح الوجود ، جاعلة من الأرض صورة للمعنى:

"هي الزرقاء و الخضراء
تولد من خرافتها
ومن قرباننا في عيد حنطتها
تعلمنا فنون البحث عن أسطورة التكوين،
سيدة على إيوانها المائي".

في تلك الدورانية إثبات و استقراء لعلاقة المحتل بالمحتل: فالاحتلال الذي يضع جوهر الإنسان خارجه، و المقاومة يحاول بها المحتل أن يسترجع جوهراً منتزعا ، بالتأويل، وهو ما يفسر إصرار درويش على أن "شعباً بلا شعر هو شعب مهزوم" ، و الفلسطينيون لم يهزموا بعد "ماداموا مقاومين"، فالاحتلال لم ينجح في محو طبيعتنا الإنسانية ، ولم يفلح في إخضاع لغتنا ومواطننا إلى ما يريد لها من الجفاف أمام الحاجز.
ان نقل درويش للأرض من حيزها الانفعالي العاطفي للعالم الملموس ، لحيز الرمز المجازي الملحمي ، التكويني ، هو تحرير لقيمة الأرض كـ"ذات" إلى "موضوع" أو كيان أنطولوجي مشبع بالقداسة ، تلك القداسة التي يتسع فيها فعل التأويل –شعرياً – لاستيعاب قوة الحياة البديهية فينا ، وذلك في ذاته هو فعل المقاومة الأقوى ، لبلد يقسم شاعرنا :

"أنا ما أكون وما سأكون
سأصنع نفسي بنفسي
وأختار منفاي
منفاي خلفية المشهد الملحمي
 أدافع عن حاجة الشعراء إلى الغد و الذكريات معاً
وأدافع عن شجر ترتديه الطيور بلادا ومنفىً
وعن قمر لم يزال صالحاً لقصيدة حبٍ
أدافع عن فكرة كسرتها الهشاشة
وأدافع عن بلد خطفته الأساطير".

***********************************************************************************

رابط المقال على صفحات عرب ال_48:

http://www.arabs48.com/?mod=articles&ID=89322

Sunday 12 February 2012

على طاولة عشاء نبوي : مشهد (2)

"الشاعر هو الوحيد المتبقي بعد طوفان نوح ، لذا تخاف السماء من عبادها الشعراء ، فهو الشاهد على المذبحة، ولن تجد نصاً أو رباً ، يقر بمن بقي بعد المذبحة، و إلا اهتزت السماء.
والنبوة محض شعر ، و لكن الفارق بينهما طوفان ومذبحة. لا تصدق الانبياء كلهم ، لو كان بيده شيء ماكان  للإيقاع صمت الموج".

هكذا ردت عليه -نبي عشاءنا المسفوك- إذ يقرأ عليها لوحاً من ألواح ملحمة جلجامش ، ويصمت إذ تساله عن "أورشنابي" ، فيقول :هو "نوح" ،
"أنذر وحذر
من الملل القاتل 
للمجد المكتئب الخامل"

....فتنظر إليّ أنا الصامت أخمن خراب النص بخيال النقصان.


  

Saturday 11 February 2012

لأسير و شهيد في بلادي

"أكنت أهذي ؟
لا، كل باب يفتح الآن يفتح على صلصال يلد حلماً، وعلى غضب جالس على الموائد و الأسرّة ، يحصي المراثي ، ويعيد تشكيل موازين الحياة.
بلادي ، تحصي مراثيها أيضاً نبؤات المهرجين ، لترتجل الملحمة.
بلادي ، تعدو بين الملاحم و المراثي ، من بداية لنهاية، لتستبدل قناع العاشق بالبحر ، و هرطقة العواصم والمدن الإسمنتية بالحنين الريفي ، هكذا يبدأ نشيد آخر، نشيد الفراشات لا نشيد الحديد.
 لتتنحنح الأرض في مجلسها خشوعاً،
أنا الدليل أخبركم هذا ، و أخبر المياه بحديث الحديد".
________________________________________________________
هكذا قال الشهيد والأسير في بلادي لعروسه ليلة إتزان السماء على أصابعه ، وزنزانته.


Thursday 9 February 2012

على طاولة عشاء نبوي :مشهد 1

"بقبلة تبدأ الحرب كلها
 بقبلة خفيفة تتمجد رويداً رويداً
وتكتنز
بقبلة يبدأ هذا كله
بقبلة خفيفة تمتليء بصخب رجل و إمرأة
مكانٌ رجل
وزمانٌ أنثوي
باتحادهما استوى الخلق في "ستة أيام"... هكذا ردد رسول السماء
ولكن تذكر... السماء رقيب زمني على أماكننا ، لذا فلن يقول لك رسولها أن
الكون خلق في ستة قُبْل...
تلك لغة السماء دوماً
تنقصها الأنوثة و الصدق
____________________________________________
كان لابد لها أن تقطع سرد عشاءنا النبوي لتقول لي ذلك في لحظة نهبٍ من ذلك النبي الجالس أمامنا على بعد كتاب مقدس ، ووحي ، وسماء خرساء...فتعيد للأنساق إتزانها