Friday 12 March 2010

في نقد النوسطالجيا...1


(لقد عامل المزاج الثوري والنفسية الثورية ، الإصلاح عبر التطور التدريجي :
Evolution
كنقيض للثورة :
Revolution
أو كاجهاض لها وتآمر عليها).

كانت تلك العبارة للمفكر والمبدع عزمي بشارة قد استوقفتني مرارا ومطولا لدى قراءتها ، لأنها شرحت وباسهاب سهل ممتنع العقلية و المنطقية الثورية المؤدلجة أيا كانت ، وعلاقتها بتيارات الإصلاح السياسي ، ولايمكنني استثناء حركات الإسلام السياسي –الثورية حاليا والتي تختصر الاسلام في السلطة – من تلك التيارات.
وذلك لأن علاقة الاسلام السياسي كمزاج ونفسية وحتى أجندة ثورية ، وكأي توجه ديني سياسي ، لم تعامل ذلك الأخير كمجرد نقيض ، انما أضفت على طرفي تلك العلاقة الضدية أبعادا قيمية ، انعكاسا لاستحواذ الحق الالهي المطلق ومايستتبع ذلك من عقلية مؤمراتية تبرر دوما إزدواجية دائرية مفرغة تقوم على وجود:

1.
مخلص :
على صورة ملك آخر الزمان الذي سيأتي ليخلص العالم من شرور آخر الزمان يوم يكون القابض على دينه كالقابض على الجمر ، ذلك المخلص هو عقلية أفضل رقابيا ، لها القدرة ال
الهية على الاخبار بمكمن الخير و الشر ، في مصادرة وقحة على العقل الفردي والحرية ، واختصارا للمنطق و الملكة النقدية الفردية.
صورة تمثل اسقاطا لأحد اثنين : صنم أو معجزة ، ومايستتبع ذلك من جمود النقد أمام خطاب ديني أيديولوجي عاطفي يبرر للعامة المخدرين أي توجه كان سياسيا اقتصاديا فكريا أو اجتماعيا ، مما تشهده ساحاتنا من مظاهر مفتي السلطة أو شيخ المعرفة الغير محدودة و الذي يدلي بدلوه الفارغ و المسطح غالبا في القضايا السياسية و الاستراتيجية المختلفة متحدثا في الغالب باسم السماء.
ان وجود ذلك (المخلص) هو المبرر الضامن و الدائم لانتشار وتسرطن علماء الكلام / النص / النقل ، وليس علماء العقل / الفقه ، في اختصار واقتصار لعالمية الرسالة الاسلامية في عنصرها السلطوي وليس عنصرها الأصل وهو الإنساني ليصبح الدين بالمجمل نقلا وليس عقلا ، وجمعيا وليس فرديا
.

2.
عدو:
هو دوما (آخر) شرير ، كافر ، مادي ، غير روحاني ، متفسخ الخلق ، طامع في ارثنا أيا كان ، وجوده هام لوجود المخلص .
ولأن كل هذه الأوصاف تستدعي وتجند منطقيا واعيا وباطنا يغرس في العقل و الخريطة الادراكية رفضا لذلك الآخر بالاجمال ، فقد تطور ذلك الرفض ليبلغ حد الاقصاء والإلغاء لتأثيره وارثه ومنتجاته ودوره المعرفي انسانيا.
لذا يصعب على المراقب للعقلية الاسلامية السياسية -حاليا- ملاحظة أي حضور لإزدواجية (الأنا و الآخر) بمنحى أفقي وليس رأسي ، وذلك –وكما سأشرح في المقال المقبل الذي يتناول النوسطالجيا في الخطاب و الاستقراء التاريخي بالتفصيل – هو السبب في جعل القراءة التاريخية للحضارة الإسلامية مختصرة في:
1.
قراءة سلطوية تتغنى في حكم الفرد الواحد ومركزية السلطة وتهاب المدنية وأسئلتها واستحقاقاتها.
2.
قراءة جزر معزولة :جزيرة الأمويين ، العباسيين الأندلس ..وما إلى ذلك ، وهي قراءة تغفل حضور الآخر و تأثيره في الانتقال من جزيرة لأخرى.
مما جعل الفكر الانساني هو فكر استقطابي أيديولوجي في حين أنه قائم أفقيا على التفاعل بين ال(نحن) و ال (هم) أي ال(أنا) و ال(آخر).


3.
وأخيرا بعد (المخلص) و (العدو) تأتي النسبة الأكبر المغيبة و المخدرة وهم العامة أو الجمهور:

هم المغلوبون على أمرهم في أنتظار معجزة تزيدهم خدرا ينتشون به ويحتسبونه عند خالقهم ، مقيدون بعقل رقابي تقوده أصنام وفكر رقابي يجعل العامة رقباء على أنفسهم ومصدرين للأحكام من باب القص و اللصق عن الصنم/ الشيخ أو العالم الفلاني ، من دون أي عقلية اطلاعية نقدية تسمح بوجود الإختلاف وتعترف بالفردية . عامة جل مايملكونه هو متثاقفين مزدوجو المرجعية ، وأصحاب قراءات موجهة يعيشون تحت سقف الفكر الرقابي ، ينتجون فقط خطابات استقطابية وعاطفية مثقوبة ، وسآتي بالتفصيل على تلك النقط : الخطاب.

كلمة نوسطالجيا تعني في ابسط صورها (الحنين) ، إلا أنها ههنا عنت (الحنين) المرضي ، وعموما من مشاهد النوسطالجيا :

* الإزدواجية:

قديما في المجتمعات الانسانية البدائية الأولى والتي تطورت من منطق طبيعي مادي يضمن سيطرة
الذكر الأقوى ، خرجت قاعدة الأغلبية، و التي اضفت صورة جديدة على مبدأ القوة وهي الأغلبية. فكان حكم الأغلبية هو وسيلة إتخاذ القرارات ، ولكن ومع تطور الزمن و الوعي و الفكر الإنساني وبزوغ علوم السياسة ، تبدى للعقل البشري ومنطقه كمية الظلم الواقعة على الأقلية (الضعيفة تبعا لمبدأ القوة ) ، ومااستتبع ذلك من مزايدة على انتمائهم ووطنيتهم في وطن تقوده ال(أغلبية) وليس ال(كل) ، فحكم الأغلبية هو عزل لإرادة الأقلية وحق تمثيلهم ككجزء من جمعية الوطن لل(نحن) و ال(هم).
لذا فقد كان سقوط قاعدة حكم الأغلبية ديموقراطيا هو سقوط منطقي ومعرفي يتوازى مع تطور الفكروالمنطق الانساني. وقد كان أول من أشار إلى ذلك جان جاك روسو في العقد الاجتماعي ومونتيسكو ، ومن ثم جاءت مقاربة أيان راند الفلسفية السياسية الأدبية في رائعتها (أطلس متشنج
) :
ATLAS SHRUGGED

وعموما تكمن تلك الازدواجية لدى التعامل مع (حكم الأغلبية) المتوفي اكلينيكيا في نقطتين:

1.
المناداة بتغليب المرجعية الإسلامية / مرجعية الأغلبية ، لتصبح مرجعية وطن (الداخل
) ، ليصبح بالتبعية الوطن هو مرجعية ايديولوجية للأغلبية وليس لل(كل) ، وذلك يفسر بشكل أو بآخر ضبابية التعامل مع مبدأ المواطنة لدى أصحاب هذا التوجه ن و التي تصل أحيانا حد انكارها رجسا من عمل الشيطان أو استيعابها بميوعة لا يثبتها الواقع ويتغنى بها الخطاب.

2.
المناداة بحقوق الأقليات المسلمة في (الخارج) ، والمناداة بخروجها على قاعدة الأغلبية مع أنها نفس القاعدة التي ينادى بتطبيقها في (الداخل) ، كما حدث حينما اعتبر القرار الفرنسي بمنع الحجاب مصادرة على حقوق الأقليات ، في حين أنه قرار اتخذ بالأغلبية البرلمانية ، كذلك قرار حظر ال
مآذن في سويسرا والذي تعدت نسبة الموافقة عليه حاجز النصف أي أنها كانت أغلبية ، ناهيك طبعا عن الصمت على مظاهر القهر بإسم الأغلبية الدينية – ولو كانت ظاهرية – في بلاد مثل السعودية التي تفرض لباسا معينا على كل النساء.

ان تلك الازدواجية في المعايير لدى التعامل مع (حكم الأغلبية) في ( الداخل) و (الخارج) ، تصب في النهاية لتغذي جنبا الى جنب مع استحواذ الحق الالهي المطلق بالأفضلية ، العقلية المؤمراتية واستحواذ دور الضحية البريئة ، مما يشرح الكثير من مشاهد العزلة التي يعاني منها الفكر الإسلامي السياسي – حديثا في التاريخ المعاصر- ، وكما هي تلك التي تعاني منها الاقليات المسلمة في أغلب دول العالم ، والتي غالبا ما تساق ضمن الإحساس بالغبن و الاستهداف مجتمعيا وعالميا ، لذا لم ولن تنمو تلك المجتمعات لتصل لوصف (الغيتو) ، إذ أنها دوما ثائرة على تركيبة الموزايك الخاصة بمجتمعاتها ، والموزاييك الدولي العالمي بالنسبة لذلك التوجه على أساس أنه علاقة ثابتة الطرفية بين جاني آثم بالاطلاق وضحية بريئة وشهيدة. ، لذا فعندما يخرج م
ثال من تلك الأقلية ليتفاعل ويتأقلم مع مجتمعه بأغلبيته و أقليته تنهال عليه الأضواء ويصبح أعجوبة وعلامة فارقة ، ويتم تصويره على أنه عنتر زمانه متغلبا على الصعاب القهرية التي وضعت في طريقه ، في حين أن من وضع تلك الصعوبات هي العقلية المؤامراتية الانطوائية ، وجل ما قام به هو الاندماج مثل غيره في منظومة لا تتوقف أمام الأفراد بل أمام الاستحقاق الفردي و الجدارة الفردية.


*
الأيديولوجيا الاستقطابية:
عندما تصبح المواطنة انعكاسا واستحواذا لأيديولوجيا الأغلبية دون الأقلية ، تصبح حينها أيديولوجيا استقطابية ، أي أن المواطنة حينها تصبح مواطنة استقطابية ، تخدم وتعرف الأغلبية كامل التعريف والربط بالوطن ، ولا يكتمل تعريفها وتقديمها للأقلية ، وما ينتج عن ذلك من ديباجات جاهزة التطريز مثال ذلك:
(
ولاء الأقلية غير مضمون) و (هم متهمون حتى تثبت ادانتهم) ، متناسيين أن ذلك رد لفعل.

*
صكوك الشهادة والغفران ، وصكوك التكفير و اللعنات:
لايمكننا قراءة تلك المشاهد وملاحظتها بعيدا عن توازي ظهورها مع بداية عصر الانحطاط والتدهور الذي دخلته الحضارة الاسلامية بعد قيام الدولة العثمانية بقليل ، فتلك المشاهد لم تكن لتظهر قبل دولة الاسلام في الأندلس ، و التي شهدت زخما فكريا ومعرفيا وحضاريا جما لم يتدنى يوما لتصدير أي صورة من صور العنف والتكفير وان كانت قد ظهر فيها أدعياء للنبوة
ومصدريين للخرافات الفكرية والتجني على شخص الرسول وديننا الكريم ، إلا ولأن الحضارة كانت مبنية على افكار لا سلطة ولا أفراد فلم يعرهم التاريخ ولا الواقع اهتماما لخلو فكرتهم مما يقيمها ، فسقطوا وسقطت ، من دون أن يسقط عليهم أحد ضوءا.
ومن أعلام ذلك التوجه التكفيري من اتخذ التكفير منهاجا ، جاعلا رؤوس المختلفين معه (معالم على الطريق) طريقه إلى جنان الخلد ، هو من يسقط عليه الكثيرون أكاليل الشهادة الدينية وما يستتبعها من معية للأنبياء و الأبرار و الصالحين وأيضا شفاعة في أهله جزاءا لما فعل ، إلا أن من يغدقون عليه وعلى ما يمثل من بنك الشهادة ، يغفلون نقطتين هامتين:

1.
أغلب القراءات لمنتج ذلك الشهيد القطب هي قراءات ممسوسة بمس الشهادة الدينية واستحواذ براءة تصديرها ردا لفعل مورس ضده باسم الحرية وهو القتل خوفا من فكره ، أي انه شهيد حرية الفكر و ليس شهيدا دينيا ، لأن ذلك المس بالبراءة واستحواذها دينيا يعطل القراءة الحدثية لتفاصيل ال
ظرف الذي أعطى تلك المنتجات من أحوال سياسية و اجتماعية ودينية وغيرها ، مما يعطي لمنتجاته بعدا مرجعيا مطلقا يسمو فوق الظرف.

2.
ان إضفاء عنصر الشهادة الدينية على صاحب أفكار مثل تلك التي وردت في كتاب (معالم في الطريق) مثلا ، انما هي شهادة براءة واثبات لأحقية وشرعية قتل وتعنيف الآخر المختلف بعد تكفيره ، كما أنها اعتراف بأن قتله وممارسة العنف ضده انما هو : دفاع عن الدين أو المال أو العرض أو الأرض، تبعا للمنطق الاسلامي للشهادة – دينيا ، مما يجعل الأختلاف انما هو صراع بقاء وصراع دفاع عن الحياة ودفاع عن النفس وهو مبرر ، بل وتباركه السماء أيضا وتجازي فاعله جنان الخلد ومعية الأنبياء و الصالحين والشفاعة لأهله.

إلا أنني وللأمانة الأدبية لا أنفي عن السيد سيد قطب أنه شهيد الحرية ، لأنه قد مات دفاعا عن أفكاره ومبادئه ،وإن كنت لا أوافقه عليها بل و أعارضها أشد اعتراض ، إلا أنني لا أستطيع أن ألبسه ثوب الشهداء / دينيا ، لأنني لا أوافق على قتل المختلف أيا كان..أو هكذا قال الدين الذي يصادرون عليه ويحتكرونه.


ان الخدر الذي تنتجه صكوك الشهادة و الغفران ، بجانب صكوك التكفير ، انما هو مخدر موضعي يصيب ضمن ما يصيب العقل الانساني الفردي النقدي لسببين:
1.
إسقاط الخيرية حقا الهيا في ال(نحن) ، لذا فلا داعي لنقد الخير.
2.
اسقاط الشر في ال(هم) ، وأيضا الحلال بين و الحرام بين.

وقد كان غياب العقل النقدي الفردي واضحت وشديد الوضوح في رد قاتل الكاتب فرج فودة وأيضا ذلك الذي حاول قتل نجيب محفوظ ، ولأنهما كانا مساقين ومغيبين كان العقل الفردي النقدي لديهم غير موجود عندما سئلا أقرأ أحدكما شيئا من كتابات من تكفرونهم كانت الإجابة طبعا : لا.

ان ذلك الخدر يقسم الناس لقسمين اثنين:
الأول سادة :
يملكون التفويض السمائي والإلهي بالتفتيش في القلوب وتصنيف الناس واصدار الصكوك بنوعيها والوكالة عن الله ، وتعليب الأحكام النمطية .
سادة يعيدون تصدير صورة الآلهة باستخدام الأنظمة الرقابية السلطوية وتجنيد الكثير من العبارات الزئبقية المائعة التي لا يمكن الإمساك بها ضمن مبدأ ال"مع" أو ال"ضد" ، وهي في النهاية مبرر وانعكاس لمبدأ (الغاية تبرر الوسيلة).

الثاني عبيدا : غرست لديهم المحدودية و الدونية الفكرية التي شلت في النهاية العقلية النقدية الفردية وملكة التأويل و التخيل و الابداع ، وجندتهم سدنة فكر رقابي سلطوي في سجن كبير يراقبون بعضهم بعضا ، من دون السمو لمستوى الفكرة ، والتوقف لدى سياسيات التكفير الأعمى وتنفيذها.

ان علاقة السادة و العبيد من هذا المنطلق أدت إلى امتداد قيود (الثبات) الخاصة ب(إلهية) ال(التنزيل) للنص الديني إلى أن طالت (ديناميكية) (انسانية) ال(تأويل) لذا النص الديني ، مما جعل أي مقاربة ينادي بها أصحاب ذلك التوجه السلطوي ساقطة (واقعيا) وذلك ل(ديناميكية) الظرف والواقع ، و(ثبات) اسقاط النص (الثابت) منذ مايزيد عن ال 1400 عام وغياب العقلية النقدية وكونها استحواذا لعلماء كلام.
ليست (الشورى) هي المثال الوحيد الذي وصل الانتشاء بقدسية النص فيها حد تعطيل أي تأويل ونقد للتطبيق.

في النهاية –نهاية هذا الجزء- وددت أن أورد مثالا يوضح مدى تقيد العقل الفردي كنتاج للفكر السياسي الديني السلطوي:
قيل لي تعليقا على إختياري لكلمة (نوسطالجيا) عنوانا لهذه السلسلة من المقالات أن ذلك الاختيار لا يناسب الفكرة المطروحة في المقال وهو كما قصدت (الحنين) المرضي ، لأن التعريف الوارد في الموسوعة البريطانية (الانسيكلوبيديا) لم يورد تعريف خارج التعريف التاريخي لها.
وكأن (النوسطالجيا) هي معلومة صلبة مادية لا تمس ، إن تعليقا هشا وسطحيا وأجوفا كهذا ما هو إلا إنعكاس لظاهرة حصار التأويل الإنساني بسلاح القص و اللصق أو كما تقال بالعامية (حافظ مش فاهم).
وطبعا إذا سئل هؤلاء:
أيجب علينا أن نصادق بالمطلق وأن نغيب الملكة النقدية الفردية و الجمعية بهذا الشكل القاصر؟ وبالذات عندما نقرأ مثلا تعريف (الصهيونية) في نفس الموسوعة البريطانية (الإنسيكلوبيديا) ؟
وطبعا ...لا اجابة.

للحديث بقية

No comments: