Wednesday 21 December 2011

في شبقية الجنس السياسي

هاهم الجبناء يفرون نحو السفينة...
يعاشرون آلهتهم...
على صفحات الكتب المقدسة...
ينزعون آيات /ورقا من توت عن جموح الهرمون فيهم...
ويسجدون بعد كل انتصاب للدياثة و الجسد المنتهك..
رافعين فوهة فروجهم للقوادة..
ويرددون: ها نحن ذا..
نعبد ماتعبدون...
نسجد لما تسجدون...
ونقبل ما تدوسون...
وربنا ملك يمينكم...
وأوطاننا محض أسرة لشهواتكم...
وعرضنا أمراضكم الجنسية...
أتقبلون بنا مقرئي آيات الحديد على فرج ذاهب ..
وفرج آتٍ...

أنظر و البيان محض تورية...
ماذا تخبئون بعد؟
______________________________________

تعليقا على ارتماء السلفيين على قضيب إسرائيل.

Sunday 20 November 2011

قراءة في الأمل الثوري

لعل من أهم مايبث في قلبي الأمل فيما يتعلق بالربيع العربي ، تميزه من حيث:
1.الوعي الذي يتمتع به الشارع والميدان ، والذي فاق نخبا سياسية وثقافية و إعلامية ودينية لاتزال تتعامل مع الثورة بمبدأ الكراسي الموسيقية، أو الراعي الذي كان يعزف نايه ليخرج الفئران من القرية (قصة من التراث الألماني)ن فالمجلس هو الراعي ، والنخب هي الفئران، فيقودهم للماء و الغرق ، بنعمة الموسيقى.
2.بلادنا لعقود رزحت تحت نير الفكر السلطوي العسكري الديكتاتوري ، وهو فكر في أصله ذكوري أبوي ، حضور المرأة في الساحات يحرر فيَّ شخصيا إنتمائي للضمير المؤنث ، في "المدينة" "الحرية" "الأم" "الجنة" النار" "القيمة"، في حين أنني "إنسان" ، ولذا فثورة اليمن الأقرب لقلبي في هذه النقطة.
3.مقدار الحرية التي يتمتع بها الثوار في الميدان ، أن تواجه الموت وجها لوجه ، هو نوع من التحرر لا نملكه إلا في القصص و الروايات ، وهو نوع من الحرية لايوهب ، إنما ينتزع.
4.جزء من النهضة الحضارية يتمثل في العودة للأصل الشعري اللغوي للإنسان ، فأصل الحضارة من اللغة و الشعر، الإلياذة و الأوديسا وغلغامش والأدب السومري و البابلي ، وغيرهم الملاحم الإنسانية البطولية الأولى نظمت شعرا في السرد ، وهو تماما مايحدث في ساحاتنا العربية ، اللغةالشعرية الجامعة وزمنيتها هي التي حمت الميدان وكل ميدان تحرير في دمشق الياسمين و اليمن و البحرين و القاهرة (جميلتي) والأسكندرية

Wednesday 9 November 2011

لا للمحاكمات العسكرية

الجلاد لم يولد من الجدار ، ولم يهبط من الفضاء ، نحن الذين خلقناه، نعم نحن الذين فعلنا ذلك ، وبإصرار أبله، تماما كما خلق الإنسان
القديم آلهته؟ خلقناه، في البداية ، رغبة في النظام السهل، ثم تواطأنا معه لإخافة الصغار و الغرباء والأعداء ، إلى أن أصبحنا نتساءل عن مدى قدرته ، ومدى الحاجة إليه ، وعند ذلك بدأنا ننظر إليه بحذر و نصمت ، ثم بدأنا نخاف منه ونعلن إلى أن وصلنا إلى الإمتثال و الطاعة والرضا ، و أخيرا التسليم!
ومثل الإله ، بعد أن خلق و إستقل و ابتعد. ثم أخذ يخلق لنفسه رموزه وشخوصه وطريقته في التعامل مع الآخرين ، أصبح وحده الذي يمنح البركة ، ووحده الذي ينزل العقاب. وكل من يتساءل أو يعترض فهو الآبق المارق الهرطوق، وهكذا توالت التقديمات له ، ثم الأضاحي و النذور، ومنه نطلب المغفرة ثم الرضا فالبركة، ومن لا يمتثل أو من يختلف فلابد أن يقاطع ، ثم يرجم، ثم يحجر عليه ، وهكذا ولد السجن! 

(2)

وتماما مثلما سخر الإله هذا الكم الهائل من الملائكة لكي تتجسس على البشر، وتنقل إليه ليس فقط ماحصل، وإنما ما يدور في القلوب و العقول من رغبات و أفكار ، وقبل أن تصبح فعلا، هكذا تعلم الأقوياء أنهم بهذه الطريقة وحدها يمكن أن يحموا أنفسهم ، وأن يواجهوا أولئك الذين يريدون هدم ماشيد خلال فترات طويلة! ولذلك بدل السجن الواحد أقيمت مئات السجون ، وبدل قوي واحد وجد أقوياء كثر بهذه الطريقة توالت السجون  واتسعت و امتدت ، فطغت على المدن وتجاوزتها إلى ما ورائها، وتزايدت إلى درجة بنى كل انسان لنفسه سجنا صغيرا يذهب إليه يوميا ، وبمحض رغبته ، للتعبد والتعود، ولكي ينتهي من هذا الواجب  الذي يثقل ضميره!

(3)

حين وصلت الأمور إلى هذا الحد قال الناس: وصلت النار إلى بيوتنا! وبذلوا كل مايستطيعون من أجل إطفاء  النار و إرضاء الذين أوقدوها... لعل الحظ يسعفهم فلا تصل إلى بيوتهم، ولكن الريح  باتت قوية وعصية على أي ترويض ، وهكذا بدأت النار تصل إلى كل البيوت. وأغلب الأحيان بشكل مفاجيء ، لأن لا أحد يحزر على الزوابع أو يتحكم بها.(4)لابد أن أتوقف، يجب أن أصبح حجرا ، أو صندوقا فارغا ، أو أتحول إلى قنفذ يعرف جيدا كيف يخبيء نفسه لحظة الخطر، وإذا تجرأت أكثر مما ينبغي فلابد أن أتعلم كيف يتحول الإنسان إلى مخلوق أخرس أو فاقد للذاكرة، وإذا إضطررت للكلام فعلي أن أتكلم كالخرفين الذين هدتهم الأيام ومتاعب العمر ونقص التروية!

(4)

الآن حان الوقت لكي نضرب بعضنا بعضا، ليس من أجل إقتسام المكاسب، فهذه غير موجودة، و إنما من أجل إستمرار الوهم، و أنت تعرف أن الثور الأبيض بدأ أكله يوم ذبح الثور الأسود! 

(5)

هل أنا الذي رأي كما قال جلجامش؟أغلبنا رأي وجميعنا نعرف، لكن الخرس اصابنا و الجبن هدنا، ولذلك لابد من الطفل الذي رأي عري الملك فصرخ، لابد أن ،صرخ ، أن نحتج.. 

الآن هنا...عبدالرحمن منيف

Wednesday 2 November 2011

السمسم

فلنتفاوض كسيدين.
إجلس هنا أمامي ، فأنا جالس ومعي ما تريد،
وحدق فيَّ كما ينبغي لخصم أن يحدق ، ثم ضع على المنضدة ما تحتوي جيوبك:
الحديقة أولا . إنني أرى الجذور تخترق السترة، و التراب يعفر قميصك. هنا على المنضدة... الحديقة أولاً.

ثم هات السحابة تلك ، التي تبلل حواف القبعة، وتتدلى خصل باردة منها بين خصلات شعرك. وهات القوس قزح، ذاك ، المائل على صدارتك المذهبة، هاته..هنا على المنضدة.

لا، لا تكن شاحبا، ولنتفاوض كسيدين ، فمعي ما تريد.
إجلس أمامي ، وضع على لمنضدة ذلك البهاء الذي أتعب مديحي..هاته وهات المساء المتدلي على صدرك كربطة عنق..

  مثقلا بالدماء ، مائلا كقوس يمتد من الذهب المسبوك بزنازين أجدادي،  إلى المديح الكذاب على عتبات صباحاتك..هكذا يتمدد ظلك على وطني، وبعون صوتك وسمعك يأخذ الوقت طريقه إلى الكلام الأخير..

أصارحك بالسنونوة الميتة على رأس شارعنا...
أصارحك بأنين الباب لصاحبه...أنا الجالس هنا، أمام صحن الرجل الذي قتل في الباب فلم يلمس وجبته...

أميري يا عافية الظلام، تسلل من الفضيحة إلي..

ولتخرس أمام البهاء الذي ينثر السمسم على أرغفتنا.


من وحي سليم بركات...

Sunday 30 October 2011

من هوامشي (4): فراسخ الخلود المهجورة بين موتنا وحيواتنا (والموت جمع بصيغة المفرد).


لقد أربكنا أن مايتفوه به موتى المصادفات يستعصي على فهمنا ، وحيرنا أن الرجل الشاحب و الشاب يصغيان إلى المجادلة الصاخبة بين الحلقات البشرية، هناك، ويهزان رأسيهما موافقين، أو يتذمران، مما يجعلنا نقترب أكثر من أولئك القتلى، فأدركناهم، يتخاصمون في اختيار القضاة.
كانوا على أهبة المرافعة عن ميتاتهم. وكان واحدهم إذا شَهَّدَ الآخر ليدعم كلامه خذله الآخر، مرافعا عن نفسه فقط، حتى انقسمت الحلقة الواحدة على كيانها، فتنافر المجتمعون، مهددين، قبل أن تعقد المحاكمات أو مايشبه محاكماتٍ. ثم تواجهوا خبط عشواء، رافعا كل شخص إلى من يواجهه، في كفيه، الشطايا التي قتلته، وكأنما تجري مقارنات، وحساب فروق في الأوزان. وكان واحدهم إذا أعيته حجته، وبراهينه من الشظايا المعدنية، ضرب الرمل بعقب قدمه، فينبثق الدم ساخنا، وهو يشير، بعد ذلك، بأصابعه إلى ما إنبثق من السائل الأحمر داعما به حججه .
كان على قتلى كثيرين أن ينتسبوا إلى هذه الجهة مرة، أو إلى تلك الجهة كرة أخرى، بحسب ما يترجح من كفتي الميزان. أي تحديدا، ما من غلبة إلا للموت. أما انتصار الأحياء فمؤجل بنعمة الإرث الهائل من غدٍ مهزوم سيلي غده المهزوم في تعاقب هندسي حتى يومكم هذا ، وذاك.


من وحي "أرواح هندسية" لسليم بركات

Monday 24 October 2011

الطين نص معماري


أن تُسأل (ماذا تعني لك المدينة ؟)، هو نوع من الأسئلة الملَّغمة و التحريضية في آن، فهي تمنحك حيزا من الحرية و التعالي بما تقدمه من علاقة خرائطية مع المكان (ومافيها من دلالات لونية) تغري البصر وتغني الصورة ، وتغوي التأويل بجمالية الخطئية (الإنفصال)، وذلك في حد ذاته حالة جمالية تستلزم قدرا عاليا من الحياد و الموضوعية، وعدم الإنجرار إلى غواية جمالية تستوثقها إجاباتنا حرفا مكتوبا بلغة خفيفة متطايرة في فرط تماسكها الجمالي الحر.
أما الجانب التحريضي من التساؤل ، فيتمثل في كونه دعوة صريحة لقراءة تأويلية وتأملية في تفاصيل المكان/ المدينة/ الخريطة، باعتبارها نصا يتمظهر لمسا ومسا لغويا في مفرداته: البشر و المعمار والمسافات المجتمعية فيما بينهما، و إنعكاس ذلك على القيمة و المدلول والتحرير ، باعتبار أننا كائنات مكانية، تتحرك و المكان في البعد الزمني وحرية الفكرة .
الجانب الخطير الآخر من هكذا تساؤل ، أنه لا يأتي وحيدا ابدا –وإن إدعى- ، فالمكان هو حضور الغائب فيه، وحالة من التعيين والتحديد تحددها تجاذبات العلاقة بين حاضره وغائبه.
سؤال الذات عن تمثلات المدينة/المكان ودلالاتها ، يحولها، إلى موضوع متسام عن مدركاتنا المدنية في جانبها المادي، فيحرر –السؤال- المدينة /المكان من صلابة "الوظيفية" البيولوجية و الإثنوغرافية -في سلم آخر-، فتصبح المدينة/المكان حيزا تعبيريا بقدر ما تحقق القيمة المعمارية والمجتمعية و التاريخية قيميا، بقدر ما كان للمدلول الإنساني لها حرية أكبر وقيمة أكبر.(وهذا هو سبب المزاوجية في المتن السابق بين حرية "المكان" واتساع حدوده الميتافيزيقية ومحدودية "المدينة" لغرض معماري بحت).
فالمكان/المدينة كيان مركب، يغلب عليه الطابع اللغوي، وعلاقة الإنسان به هي علاقة طينية بمنطق المزاوجة بين الماء و الطين ، وتحرر الصلصال من وطأة المعروف من الشكل، لذا فالمسافة بين الطرفين هي مسافة تعبيرية ، يحددها الإنتماء الطيني.
تصعب الإجابة على هكذا تساؤال في مدينتي التي يسير سكان أماكنها فيها –بمعزل عن مكانهم- وأبصارهم شاخصة في قلق وجودي في موطيء أقدامهم لاتعلوه حلما بقدر ما تتدناه خوفا، غير قادرين على رؤية الفلك المشم في المتون المرفوعة بين أرضهم وسمائهم، إما عن إحساس مفرط بالذنب تتقاذفه عيونهم فيما بين مسيرهم في عروقها، يوسف وذئب، وإما استسلام لوطأة حياة حوَّلت الظلال قوام لمس للضوء، فعطبت الثابت من الحياة و الموت.
في المدينة، إجتماع شذراتنا المائية في لحمة الجسد المائي في جريانه اليومي، بكامل إتفاقه، وتواطؤ جاذبية المدينة تارة معه وأخرى ضده ، جريان يوسوس لنا مجيبا نداء الطين فينا نحن بشره ، وبذره.
إن المدينة/الطين التي لا يؤول بها بذرها/بشرها، و البشر الذين لا يحررهم تأويلهم الطيني المتَّمدْن ، هم اغتراب المعنى عن ملموس اللفظ.
****************************
قال لي حرف/حجر، شق فتقه اللفظي من جسد النص المعماري في مدينتي ولم يكن ببالي مرآه سقطاً كغيره:
أنا انعكاس نبضك المائي في الطين ، وأنت وبنو طينك تعتزلونني في طقس حداثة الطين الكذب، ولا أدري لمَّ، ألمقتلة سياسية ومجتمعية وطأتكم؟ أي الأحمال تلك التي تحملونها على أكتفاكم، تكسبكم خرسا مزهوا ؟
نظرت إليه وهالتني تفاصيله الحاضرة، لاهوادة فيها، لا وقت فيها إلا ظلاً، ولاظل فيها إلا وقتاً. أعطته تعاريفه المظلولة تفاصيل اللاموصوف من قصور إدراكنا ، نحن قاطنوا نصه، متأملون –والجمع دلالة فقد الحضور الفرد هنا- الغمر الساكن في الشكل.
ومساً أصابتني هوة البعد المختصر مكانا وزمانا في لمسه، واستوثاقه بصرا، فتوقف النص الطيني عند أول الطين و أول اللمس ..كم أهملناه و أهملنا، فسقط الزمان بيننا على جسد وفاء الموصوفات لللامحتمل مكتوما، لايبعثه إبصار حواسنا ولا كثافة فقدنا.
هاله صمتي ، وكتل الزمان و المكان بيننا رخوة من فرط نهب مدننا، فقال:
أللحيرة جسد؟
قلت: بل للجسد حيرة ونص، في كون أغمض عينيه عن أجساد يلمحها ونهابها ، وبيننا خلسة و آية ومنطق الحديد.
قال: أين اجسادكم الحائرة، ومرآوية الزئبق الكاذب تغطيها وتحيطكم، تُفْرطون في وثنية الجسد، بقيافة النص الجسور –شكلا- في تقييد البعد. عبث أنيق هو نصكم ، ومرآوية الزئبق فيه لا تخبر إلا ماأردتم من الكذب ، ومعتقد الرماد في سرديات اللهب البارد. فالزئبق هو نبض الهروب الأزلي.
نصوصكم/عرَّافوكم، أصواتكم التي تثير حفيظة السماء..أخرستموها ، فلتعودوا إلى مائكم / مَنِّيكم، فزجاجكم الزئبقي لايقول إلا مايطلب منه، كوزير الوالي وجبريل السماء..وهنا هو قوَّاد الحي إلى جمالية العدل الإنساني المنهوب.
تدخلون أجسادكم الفضية/ الزئبقيةعارية اللون و المعنى، حتى الشمس –أصل المعنى و الأنوثة-  لا تُعْرِّفها، شؤونكم فقدكم النصي المقدس، تسرقون من أنفسكم خلسةً خلسة زمنكم ، و ألق الآخر. مثقلة متونكم بآخْرِّكم ومنحسرة هي ذواتكم، يطغى حاضرها الملول بقناعة ماضيكم.
و بين كل ثرى وثريا عرَّاب هزيمة منتصرة، يتوج الرماد بالرماد، يبيع لهاث صلصالكم، يتلو عليكم تراتيل إله المعدن، يسرق سمائكم ليحشو بها منطق ملابسه الداخلية معدنا ، في زمن الأبوة المقدسة.
جائكم من قافلة حكماء يدربون صغار الموتى على خيانة أنفسهم ، كلما إطمأنوا إلى أنهم أبناء نسل خان حيث قدر على الخيانة. موتىً هم حيث أنجز كل واحد منهم معجزة موته ثقة بانتصار الموت فقط، فعادوا بخرائط جليلة للعمران حول حدائق الموت، خرائط من ريح ومن دوي الصدوع المهولة ، و إنهيار سفوح المعنى.
قلت: أهذا كل ماتراه؟
قال: كلا ، فللنص بصر، لايراكم ، ويتنبأ.
فضاؤكم بلا أمكنة ، وزمنكم بلا ديمومة ، حضوركم في معماركم هو عَرضُ اللهاث من النفس، هو خروج وهروب على الدوام، ذاكرة مضطربة في هزائم المكان المنتصرة. تتلمسون هَوِّياتكم تحت الدروع الذكورية بيد من ضمادات نصوصية لا فضاء فيها، و الهوية صلصال وطين وأنثى حرة ومقاومة.

أخرستني كلمات وصفه، راكدة تنتسب للمكان عن المكان، أي مرآة تلك "أماكننا"، أي نصوص هي التي تعري فينا خوفا ممسوسا ، لا تعوزه إلا مصادقة الموتى من الحياة.
في البلاد بلادي ومكاني خيال يحيا متذررا على حد سيف وشرعة كاهن، يهرب متنكرا في نصوص جسدية لاتهادن أرواحها، ولا أفكارها، بلاد القناعة فيها أول القهر.
بين خيال منتهب وقناعة مسلوبة، يصبح للطين هاجس الأشكال، فيدفن إفتراضه الطفل. تنقصنا حرية اللغة، الكسولة كالديمومة، بين ذواتنا وقشرة الموت اللغوي فقدا. لغة رقيقة تخرج من فروج إناثنا، وتسامي تائهن في هواءنا، لغة لا تحتجب لذئب ولاتتماهى ظلاما لخصية، لغة لاجزية لمطبقاتها وتورياتها، لغة لا لواقعها عليها سيف وشيخ، هي كل لزومنا لوأد غيابة الطين في معمارنا وصلصالنا.
نصوصنا/طينتنا سردية تواريخ الفقد المشكول الوصف، هندستها أختام السديم الجمهوري و الملكي حولنا سجناً ، بأبدان قيدٍ لقضبانه أثير الملمس وشيخه، وعبادة التمر، في علوم المفقودين في ثنايا مخمل المجلس ، وزمن الفيلة.
نصوصنا، خروج الإسم من خطوط الكف و الرقم، عودة التأكيد المنهوب على الوجود. أي النصوص تلك التي يساءلني الحرف فيها عن فقد المنظور من المعنى، أي تساؤل كهذا، يقف محدقا في جرائم اللون و الرمز في فينا؟
عندما نقع عبيد وصوف حواسنا وبيولوجيتنا الأزلية أيديولوجيا، فطبيعي أن نهاب حرية اللاموصوف، وخيالنا وقع المنهوب منا فينا. حينها يصبح الحب لمنطق النص ضربا من جنون الخيال وتبذير المنطق، متحررا من وطأة القيد و المنفى لغة، حضوره كرم القاعدة المضطرة شذوذا.
منحوتنا الحرف، خيال من نبذٍ معمارية هي نصوص موتى وعماء أيديولوجيا، هو أقصى حضور الألفة المجزوءة من فقد الكل.
قال الحرف مستوثقا من غضب نصه الصامت:
خيال له قوام الرمل، نبذا لاتكتمل سرداً، حيواتكم فيه لاتأكيد فيها إلا على حرية الموت، فلتعودوا لباديء الهوية ومنتهى التجاذب، تلفظوا مائكم، فمتى تلفظتم الآخر كان ومتى تلفظتموه كنتم حرفا من نص حر..أنتم، فالموتى لا يلمسون الموتى ولايتحاورون في الوثنية. نصوصكم/معماركم إنتهاك خريطة من ريح وحبكة بلاحكاية.
ثم وضع حرفه بين خطوط يدي ، وملمس الإسم الإلهي كفاً، وقال:
فيك نبضة قلب تائهة، تنادي حرية المطلق في جسد مغترب نصا.
اعترفت:
أحبها بقدر ما أهوى خرائطها ويغويني فقد اللون فيها بين رمادي بخيل وأسود مفرط في الكرم السلطوي، فتحررني ألوانها المنتهبة رمادا طائرا.
قال: لاتتركها إذن، تغدو حكيا أنثويا، يعوزه ذكورية اللفظ، ليتحرر المعنى من وطأة الهروب، لاتفعل لكي لا ينتصر العدم على العدم، وتعود كيمياء المدينة كيمياء متون رطبة..فقط.
ورحل حاضرا.
فتذكرت حينها مدننا المنهوبة و المحتلة، أتراهم يسمعوننا، وماذا كانت لتقول لنا حروفهم، التي تستجير بدعاء الظلام المتصبب حولها فيمنحنا خرسا تهتز له أعراف الضوء ، وتلفيق تاريخنا للظلام..ظلامنا.

Tuesday 20 September 2011

مشاهداتي (1) : إستحقاق أيلول جريمة لغوية

الإحتلال يقوم بافتراض صيغة من التكافؤ أو الترادف فيما يتعلق بالفلسطيني بين "الصورة" و "الهوية" ، لذا فهو يقدم دوما الفلسطيني على أساس إنه "إرهابي" أو من حضارة أدنى ثقافية / إنسانيا أو صاحب "حياة" تستحق الشفقة -فلا قضية نبيلة لديه يقاتل من أجلها إنما هو يستشهد ويموت ويؤسر ويقاوم لكونه لا يستطيع أن يحيا متوائما مع الآخر "الغير إرهابي" الآخر "المتحضر ، لإرث أدنى من ثوابت دينية وثقافية وحضارية وإنسانية .
وهو ما يعطي حيزا للفلسطيني ، للمقاومة و تغيير حدود الإستيعاب و الخطاب و اللغة و التمظهر ، وذلك بخلق زمنية فلسطينية خاصة لا يمكن الإحاطة بها أو إدراكها إلا بإدراك وتعريف "الذات" الفلسطينية كاملة بين:
"تناقض" الصورة كمنتج حداثي معولم.
و"ثبوتية" تقتل الهوية ، كمخزون حي للإنسان.
وهو ما يجب أن يتم باستخدام خطاب سياسي وحضاري وثقافي وإنساني، يتحرر من أدوات "التخييل" و "التمظهر" و "تعيين الهوية" للآخر ، سواءا الأدوات الايديولوجية و القانونية و الدولية.

إن استحقاق ايلول ، هو نوع من المصادقة -القانونية و الدولية- عن ذلك الترادف الصهيوني -المدعى- بين "صورة" الفلسطيني و "هويته" ، وهو يتفوق على عملية الإخفاء اللغوي القسري للفلسطيني بينهما ، في الجسد السوسيولوجي - وحتى الأنثروبولجي- الإسرائيلي، إلا أن تداعيته أيضا لا يمكن فصلها عن الجسد الفلسطيني فهو صنيع ذلك العقل السياسي الفلسطيني.

إن استحقاق ايلول ماهو إلا جريمة ، لغوية و إدراكية و إنسانية ، تفوقت على جميع ادوات "المابعد كولونيالية" للسيطرة .

Tuesday 13 September 2011

استحقاق أيلول: إقرأ ...ما أنا بقاريء

(من شأن انضمام فلسطين لهيئة الأمم المتحدة تمهيد الطريق أمام "تدويل" "النزاع" باعتباره أمراً "قانونياً"، وليس مجرد أمر "سياسي". كما سيمهد الطريق أمامنا لمتابعة "ادعاءّاتنا" ضد إسرائيل لدى أجهزة الأمم المتحدة، وهيئات حقوق الإنسان المنشأة بموجب "المعاهدات" ذات الصلة، ومحكمة "العدل" الدولية... كنا نتفاوض مع دولة إسرائيل على مدى عشرين عاما دون أن نقترب ولو قيد أنملة من إقامة "دولتنا"... وماتزال المفاوضات هي "خيارنا الأول"، ولكننا بتنا مضطرين، بسبب "فشل" هذه المفاوضات، إلى التوجه إلى المجتمع الدولي لمساعدتنا على المحافظة على الفرصة "الأخيرة المتبقية" للتوصل إلى نهاية "سلمّية" و "عادلة" للنزاع القائم).

من ترانيم الوثنية السياسية في زمن إله الحديد ورسله، على لوح محفوظ أنزلته سماء عاقر، على عتبات تاريخ مغتصب، في شؤون الدم المسفوك على كتف عاهرة، كانت تلك الصلاة، لانتزاع اعتراف أممي بقانون الجسد المنتهك.
مؤلم ومفجع ومأساوي، كيف ترتكب هكذا مخيلة جرما متخيلا، وتقننه وتسيّسه، وتصلي له. أي خرس تاريخي وصمم ذاك الذي أصابها؟
ألم ير ذاك القلم المسفوح السردية التاريخية لآدم، منذ أن خرج من جنته على يد آلهة وشيطان، ألم يهتز حبره يوما ويسال لزلازل تزور مدنا وقرى لتدمرها، فلا يهجرها أهلها، بل يعيدون بناءها، ويرتقون ظلالها بالضوء والحكاية، في ذات الموقع التراجيدي وعلى نفس ركام الألم؟
ماذا نسمي هذا الشغف بالمكان، حتى في عز الكارثة؟، أوليست السردية أول الفاكهة والأرض والهوية، لغة.
وما يصح على الفلسطيني ينطبق على اليهودي، ألا ترى – تلك المخيلة- إلى حائط المبكى وقد ذاب من القبل أكثر مما حتتّه الدموع؟
إن مخيلة الترانيم الوثنية تلك، وهي تتمنطق بالقانون وجميل السياسة – إن كان لها جميل-، لا تملك من الحياة ما تضخه في عروق ورقة توت "مستحقة" واحدة من "هذه الأرض"، تداري بها سوأتها، تحت سماء خرساء وشيطان بريء.

صلاة كتلك بمحراب روما القديمة/الحديثة، تسفك التاريخ لصالح إتاوة إيروسية فاحشة وكاذبة، وتنتهي بالأخوين اللدودين إلى عناق عار وجاف، بعد اقتسام جسد المرأة، وسريرها.
أما توقفت تلك الترانيم الأيلولية، على العتبات الصلصالية لزمان يصر على ألا يكون إلا "أيلولا أسودا"، مضرّجا بالعويل، و النهب، و حنين البدايات للبدايات، قبل أن تُمس عذرية التعاريف، بقضيب التأويل، ألم تتساءل قبلا:

ألم يكن ذلك "الانتصار"أقل كلفة بعد خمسة حروب وانتفاضتين، وأجساد وأحلام تطأها القبور والهوية؟
أي انتصار يتضور جوعا هو ذاك، انتصار الميلودراما على بطاقات البريد، حين يصبح العنوان سرابيا بامتياز على سفح جغرافية خطية: "على يسار المسرح المهجور سوسنة و شخص غامض، وعلى اليمين دولة مدنية وعصرية"؟، أما اكتفينا من متلازمة منطقية عربية بامتياز جعلت منّا قاعدة شاذة لا تستوي بدونها عموم القاعدة، كحتمية العلاقة بين المركز و الهامش.
أي إله، يقبل نسبية البراغماتية، قرابين لمطلقه المقدس، أي عدالة تلك التي تنزع عن الفلسطيني ظله، بقناعة إجبارية، وتاج من رماد، ليقول: وداعا حيفا، وداعا طبريا، وداعا أيها الشاطيء السماوي، وداعا عكا، وداعا لكل زيتونة عتيقة ومتعبة، من الحكاية، وداعا لفلسطين الماضية إلى يهوديتها إلى الأبد... بكوفية؟
ويخرج من برتقال يافا الحزين... حزينا.
أي وطن هذا الذي يمهره الذئب بدم الغزال، أي "عدل" ذاك من لغة تخون معناها؟، هو ليس "نزاعا" حين تشبثت الجهات بوجهة البراعم، هو ليس "ادعاءا" حين صعدت الصرخة سلالم النبات، هي ليست "دولة" تلك التي تباركها إبادة هوية، ومنفى وطني لها.. مخيلة يحاكمها كرسي وصولجان، بتهمة معاداة الأسطورة ويقظة زائدة بهوية ووطن.
لن ابدأ وطني/دولتهم من ظلام وفلز، فتلك أرضي وأرض سمائي، ولست مكلفا إلا من الغياب بكتابة أسماء حضورها الجغرافي والثقافي والحضاري والإنساني، كتابة تحررها ذكورية اللغة وأنثوية الحكي، ذكورية البرتقال وأنثوية الأرض، هما كل ما أعرف، فلست إلا ما أعرف، ولو لغويا.

ناهضا في ثيابي الآجرية يحدني شمالا موجها وجنوبا برتقالها، وشرقا سماء وضاءة، وغربا سيف من "ضاد"، بها أطمئن لنبضي الصلصالي تحت قشرة الدم، فأعري خطابا سياسيا أفرط في خفته اللاهوتية، وزئبقية البوصلة.
استكثرت علينا "كافا" مهما تشابهت تظل شبهة لا تلامس النور، فلا يعوّل عليها، لدولة لن تصبح كـ "وطن".أي ترجمة للبازلت ننتظر، لنص ثوبه اللغة، وجسدنا المعنى، حرا من سطوة الأركيولوجيا، في زمن ربيعي تصوغه النون الفلسطينية العربية، في منتصف الـ"أنا" وعلى بداية ونهاية الـ"نحن"، إلى بلد لاحدود له، وغينة لا تختنق.
"اللغة التي ورثناها، بلا انتظام، قد بلغت حد الإشباع في وصف مالا يقترب من وصف حالتنا الجديدة. ولكنها هي تلك اللغة، وما يشير إلى هويتنا وإلى شكل وجودنا ونسيجه. وفيها لا في الواقع الطارئ، نعثر على دفاع الجسد عن الروح، وعن حاجة الروح إلى جسد".

أيا لغة من الأرض، وللأرض، هي مخطوطة كتبها الله بحبر سري والشمس والعشب والماء حبر فاقرأ!. ولا تقل لي ما أنا بقارئ.
ميز بين الموج و الطمي، بين الأفعى و الأقحوان، لتكفر بإله الحديد، وجبريله.

_______________________________________________________________________________
رابط المقال على موقع عرب الـ48 الإخباري:

رابط المقال على صفحات المركز الفلسطيني للتوثيق و المعلومات:

Friday 5 August 2011

من هوامشي (1) : الرمز أيديولجيا حداثية

في مجتمع الاعلام المعولم تتراجع الفكرة و الحجة و الحقيقة لصالح قيم أخرى كالعرض و الأداء و المسرحة و الطقس و الحدوثة ، فضلا عن الصورة الطاغية على المشهد ، لتتغلب الخدمة دوما على المنتج.
كل ذلك أدى إلى فقدان الأمن الثقافي و الرمزي ، الذي كانت تتمتع به الهويات الثقافية ، بسبب:

1.تصدع الحواجز بين الدول و المجتمعات ، لصالح تذرر الإنسان القيمي إلى الإنسان البيولوجي.
2.اجتياح/استحواذ الرمز و الصورة والفكرة و نمط العيش ، للنفوس و العقول  المطمئنة (؟؟؟) و المستحوذة (؟؟؟) على عقائدها  وتقاليدها.


وهو ما يفسر تغّول الاتجاهات اليمينية (دينيا وسياسيا ووجوديا وثقافيا...وغيره) ، مستخدمة وموظفة الرمز على حساب الفكر. وهذا التغول لا يقوم من دون الإفراط (اجتياجا و استحواذا) في مشاهد الحداثة السائلة ، كالرمز و الصورة ، مما يولد حالة من انعدام الاستقرار والتوتر و انعدام السيطرة ، مما يفقد الهويات حصونها الرمزية (لابالمنطق الموضوعي إنما بالرمزي أيضا) ،وأمكنتها المسيجة و مناطقها الحميمة ، كل ذلك على حساب الفكر الموضوعي لصالح الرمز العابر ، ولا يسلم من هذا الفقد المنطق التاريخي ولا اللساني تعبيريا

Saturday 30 April 2011

بيان من د.عبدالله البياري تعقيبا على قرار الهيئة الوطنية للدفاع عن الحقوق الثابتة للشعب الفلسطيني

ردا على بيان الهيئة الوطنية لحماية الحقوق الثابتة للشعب الفلسطيني ، و الصادر بتاريخ  (27 /نيسان ابريل /2011) ، بشأن "تجميد عضوية د.عبدالله البياري" :

نظرا لما تشهده الساحة العربية من أحداث ثورية ، على العديد من الأصعدة ، لايسعني هنا إلا أن أذّكر غافلا أو جاهلا ، أو (...) ، أن الثورة -العربية- هي طقس "رفض" و "حسم" ، أي أن الثورة لاتعرف أنصاف الحلول و التعاريف ولا منطقة "الرمادي" ، الثورة العربية الحالية هي المشهد التصحيحي الوحيد على مدى زمني ليس بقليل، فالثورة التي تشهدها ساحاتنا العربية إنما هي تصحيح لغوي- إصطلاحي لمعنى الثورة في خارطتنا الإدراكية ، و عقلنا الجمعي الذي تم تشويهه على مدى القرون الماضية بفعل الكروش و الكراسي النظامية. وهنا أقدر حداثة العقل العربي نسبيا بالحرية والثورة حتى ولو كانتا حرية وثورة "لغوية" ، ولكن ضمن حدود.

حول بيان تجميد عضويتي ، وبعيدا عن عواره القانوني ، يبدو أن من صاغه ، خفي عليه أن دكتور عبدالله البياري هو الإسم الوحيد الذي تم طرحه في إقتراع سري عام ، ونجح بالأغلبية ، وذلك في المؤتمر التأسيسي للهيئة في دمشق ، أواخر العام الماضي (2010) ، في ظل لغط كبير شاب أحداث ذلك المؤتمر، وسببه أوضح من نار على علم .
ولأن بيان التجميد ، يعتمد على لغة أنأى بنفسي عن إستخدامها ، لغة بنيت على "التجني" و "الإدعاء"  وهي أوصاف أكثر أدبا وأقل صدقا من "الزور" و "البهتان" و"الكذب" إلا أنني أستخدمها لسبب سيتضح في المتن تباعا .
وحول الوارد في بيان "التجميد" ،  يتوجب عليّ الإشارة للتالي:
أولا : فيما يتعلق بما ورد من أنني قد استخدمت "لوغو" الهيئة ، سواءا بإذن أو بغير إذن ، فذلك قول لا يكفيه بعده عن الصحة و مجانبته الصواب ، إلا أنه قول –وأزيد- غير أخلاقي على الإطلاق ، وذلك لأنه في حالة إرسال أي مادة تحت شعار أو "لوغو" الهيئة ، يجب أن يتم ذلك عن طريق "الجروب" الخاص بالهيئة على الفيس بوك ، إلى جميع أعضاء الجروب ، ولكن يبدو أن من ساق هذا القول ، لم يبذل الجهد الكافي في البحث في "تطريز" تفاصيل استخدامي ل"اللوغو" ، حيث أن كل المواد التي تم إرسالها من الجروب معنونة باسم الهيئة وتحت "اللوغو" الخاص بها إنما هي مواد ثقافية وفكرية وفلسفية ، أي أنها كانت إما : أفلام ، كتب ، دوريات ، جرائد ، مقالات ، محاضرات ، نقد أدبي و غيره (وهو الخط الأهم بالنسبة لي من العمل السياسي) ، وكل تلك المواد لا يوجد بها عامل الحشد وغيره –كما كان الإدعاء كذبا - ، كما يمكنني تزويد من أراد بتفاصيل تلك المواد ، وتواريخ إرسالها و أسمائها بل وبمواعيد إرسالها ايضا ، ولكن يظل الطريق الأسهل لذلك أن يفتح كل من أراد التحقق من ذلك ، صندوق بريده على الفيس بوك.
أما المرة التي أعتقد أنها المقصودة باستخدامي ل"لوغو" الهيئة ، هي المرة التي نشرت فيها صفحة عن الثورة السورية ، على صفحة الجروب ، وهنا يجب توضيح التالي للأهمية :
صفحة الجروب هي صفحة مفتوحة لجميع الأعضاء (أعضاء الجروب ال2000 ويزيد وليس فقط أعضاء الهيئة) إلى تاريخ تلفيق الإدعاء السابق في حقي طبعا) ، وهي –كانت- مفتوحة ليتم النشر عليها من قبل أعضاء الجروب من دون أن تعبر تلك المواد المنشورة عن موقف الهيئة وهو ما يكفله حق أو زر الإلغاء و الحذف لمديري الجروب (الآدمن). أي أن تلك الصفحة التي نشرتها أنا (د.عبدالله البياري) على صفحات الجروب ، هي رأي شخصي منشور تحت إسمي الشخصي و ليس تحت إسم الهيئة أو "اللوغو" الخاص بها ، أي أنه رأي شخصي ، لا يملك أحد إنتزاعه مني إلا بالمنطق و الفكر وليس بغيره ، وتظل مساحة الإتفاق و الإختلاف موجودة ، و الأهم الإحترام ، أو هكذا كان .

ثانيا : فيما يتعلق باستخدام صفحتي على الفيس بوك للتعبير عن مواقفي ، فيبدو أن الداء "الدكّاني" قد تسرّطن فيما يتعلق بالتعامل أولا مع الهيئة ومنه إلى الجروب ومنه –بخبث- إلى صفحات الأعضاء الخاصة على الفيس بوك ،ولا أعلم إلى أين التورم بعد (؟!!) ؛ وبناءا عليه أصبحت صفحتي "الخاصة" على الفيس بوك ، منبرا للهيئة ، أو رفّا في "الدكان" ؛  يجب أن استأذن صاحبه قبل أن أنشر اي شيء عليه ، في حين ان صاحب ذلك الإدعاء – ايا كان- تجاهل أن صفحتي على الفيس بوك إنما هي تعبير شخصي عني لست ملزما بأن أستأذن أحدا قبل أن "أعبر" عن نفسي بما ينشر. بل يمكنني أن أتخيل وبوضوح أن صاحب ذلك الإدعاء – أيا كان أيضا- يتوقع أن أي "طلب إضافة" يردني في الفيس بوك إنما هو حق له هو أن يبت فيه ، أتمنى الا يتطور الموضوع أكثر فاكثر فأصبح مضطرا يوما ما أن أتعاقد معه شخصيا كوكيل حصري لخدمات الفيس بوك .

ثالثا : عن موقفي من الأحداث على الساحة السورية ، فأيا كان موقفي ، لا أعتقد انه يسوّغ الخطاب التخويني و الإتهامي القائل بتنازلي عن الثوابت الفلسطينية ، وذلك لأن الثوابت ليست معروضة في دكان احد ، وهو خطاب على علّاته و أمراضه ، أكثر ضحالة من أن يرد عليه ،إلا أنني –ومع ذلك – أصر على الإحتفاظ بحقي في تبرئة ساحتي من تلك التهم الباطلة والمعطوبة أخلاقيا ، بكل الوسائل القانونية و الأخلاقية اللازمة ،  مع التذكير على أن الطبيعة إذ نصت "أن لكل فعل رد فعل"  ، فلايجب أن ننسى أن الفعل و رد الفعل تفاعلهما صفري في النهاية ، وأنا –والكثيرين من أعضاء الهيئة- لا تجمعني بالصفرية إلا علاقة ضدية ، كما الثرى و الثريا ، وتأكيدا لذلك أضيف أن الفعل ورد الفعل من نفس الجنس ، لذا أرفض أن أتنازل عن ضديتي مع الثرى ، وأرفض التعاطي مع خطاب لايمتلك أرضية اخلاقية من الممكن أن التقي معه أو ضده .

رابعا : أعلن أنا د.عبدالله البياري ، عن تضامني مع المطالب المشروعة للشارع السوري الأبيّ في مواجهة الماكينة الأمنية ، و الإعلامية السورية (المضللة) ، و أعلن عن موافقتي للوارد في بيان المثقفين الفلسطينيين و التالي نصه :
“يدين الموقعون على هذا البيان، من العاملين في الحقل الثقافي في فلسطين، والنشطاء في مؤسسات المجتمع المدني، أعمال القتل التي يمارسها النظام السوري ضد المطالبين بالحرية والكرامة في سوريا، ويعبّرون عن تضامنهم مع أشقائهم السوريين، الذين يناضلون من أجل أن تكون سورية دولة ديمقراطية حقيقية ولكلّ مواطنيها، تُصان فيها حقوق المواطنة والكرامة وحقوق الإنسان في التظاهر والتعبير، وتمارس فيها الديمقراطية والتوزيع العادل للثروة وتُحترم فيها التعددية السياسية والثقافية، وآليات الانتقال السلمي للسلطة عن طريق صناديق الاقتراع.

“إن المشاريع القومية لا تستطيع أن تقوم بدورها إلاّ إذا كانت ديمقراطية حقّاً وحقيقةً، يشارك فيها أبناء وبنات الشعب بالتساوي في ظلّ دولة القانون، ولا كرامة للأمّة من دون الحفاظ على كرامة المواطن الفرد، ولا معنًى لحق تقرير مصير الشعوب إذا لم يكن مدخلاً لحق الفرد في تقرير مصيره الشخصي، ولن تستطيع سوريا إستعادة دورها العروبي الرّيادي ثقافيّاً وسياسيّاً إلاّ إذا استعاد المواطن السوري حريّته وكرامته.

“كما يرفض الموقعون على هذا البيان الزج باسم فلسطين والقضية الفلسطينية الذي يقوم به النظام السوري لتبرير قمعه الشعب. إن استخدام اسم فلسطين والقضية الفلسطينية من جانب النظام لتبرير قمع الحريّات في سورية يلحق الضرر بفلسطين وقضيتها. كما نذكِّر أن في سجل النظام مواقف كثيرة دفع الفلسطينيون ثمنها بالدم والدموع.

“مصير الشعوب العربية واحد والمواطنون العرب في كل مكان متضامنون في مسعى الحرية والكرامة وفي انتزاع حقوق أساسية عديدة سلبتها منهم أنظمة صادرت حرياتهم وانتهكت حقوقهم. ومن هذا المنطلق يوجه الموقعون على هذا البيان التحية إلى أبناء سورية وبناتها في هذه اللحظة الحاسمة من تاريخهم. سورية الحرّة والديمقراطية لن تكون إنجازاً مجيداً يضيفه السوريون إلى تاريخهم وحسب، بل ستكون إضافة إستراتيجية ومعنوية وسياسية كبيرة إلى حاضر ومستقبل العالم العربي، وإلى رصيد فلسطين وقضيتها العادلة.”

- كما وأعلن توقيعي على بيان الكتاب والصحفيين والفنانين الأردنيين، وفيما يلي نصه :

نحن الكتّاب والصحفيّين والفنانين الأردنيّين الموقّعين أدناه، نعلنُ انحيازَنا الكامل‘ إلى ثورة أمَّتنا، الحضاريّة، السلميّة، الراهنة، ضدَّ أنظمة الظلم، والطّغيان، والتبعيّة، والتخلف، في شتّى الأقطار العربيّة، من المحيط إلى الخليج. وإنّهُ ليؤلمنا، ويزلزلُ أرواحَنا، أن نرى دمَ أشقَّائنا السورييّن، بالذات، وهو يسفكُ بلا أدنى رحمةٍ، من قبل نظامٍ طالما حَسِبنا انّه عروبيّ، وتحرّري، ومنحاز إلى نهج المقاومة.
"وإنَّنا إذ ندين القمع الوحشيّ، الدمويّ، الذي يمارسه النظام السوريّ، ضد أبناء شعبه الأعزل، لنؤكد على أننا نرفضُ أيَّ تدخلٍ أجنبيٍّ في الشأن العربيّ السوريّ، كما نرى أن سفك الدَّم، هو الذي من شأنه أن يُخلخلَ بنيانَ أوطانِنا الداخليّ، ويضعف قدرة شعوبنا على المقاومة، ويدفع الأجنبيّ للتدخل في شؤون أمِّتنا.


وفي الخاتمة أعلن عن إنسحابي من الهيئة الوطنية للدفاع عن الحقوق الثابتة للشعب الفلسطيني ، وذلك إستجابة للكثير من العلامات و البشائر التي ظلت تتهاوى علي ، وظللت أتعامى عنها ، وعن تواترها ، المنبيء بواقعها الحالي ومستقبلها ، وما كان تاخري في إعلان موقفي هذا إلا تأكدا مما أصبح عيانا .

وإنسحابي من الهيئة إنما يأتي ، فيما أؤمن أنه دفاع عن إنسانية الفرد العربي ضد عقلية تشابه عقلية "موقعة الجمل" المصرية - المباركية . الإنسانية التي أعطت قضية فلسطين ولاتزال ، و هي القضية الإنسانية – أولا ، و العربية – ثانيا بعدها القيمي ، الذي لا يمكنني المقامرة به ، بعقلية ميكافيلية بحتة .
أنا "مع الانسان ضد الغول و البهلوان و الصنم" – عبدالرحمن منيف

مع خالص التحية و الشكر،
د.عبدالله البيّاري

السبت
30 نيسان / أبريل 2011

Sunday 24 April 2011

في نقد النوسطالجيا (11) : الخاتمة : المرجعية الحضارة / القيمة لا السلطة / القوة

إن ما تشهده الإنسانية ومجتمعها الإنساني كونيا من الثورات والتحولات والانهيارات والإخفاقات والإنجازات، والمطالب الوجودية والعناوين الحضارية، تكشف عن ديمومة حركية وحيوية المحرك الإنساني الأول: الفكر.
وتيار النوسطالجيا ليس بشذوذ عن ذلك الانتماء الفكري الإنساني (مبدئيا)، ومن هنا فأي مقاربة للفكر الإنساني يمكن تطبيقها عليه من حيث أن الفكر يمكن تقسيمه إلى عدة مستويات (أبعاد) فاعلة ومترابطة عضويا، وهي بالترتيب:



1.المستوى الأول: الهوية:
الهوية بكل تعاريفها ومقارباتها، هي ما يعطي للحيز الوجودي حدوده وتفاصيله ودوره، بما هي ازدواج والتباس، أي أنها –بعبارات أخرى- ليست كائنا أو كينونة صافية ثابتة، تتساوى / تتماهى مع ذاتها، إنما الهوية هي عملية "إدراك" و"مساءلة"، و"تحول" و"انفتاح"، أي أنها بقدر ماهي مركبة وملتبسة، فهي سوّية ومفتوحة على تعدد الأبعاد والوجوه، وديمومة القراءة الذاتية ومنها للتحول، ذاتيا وعلاقاتيا، مع الذات والآخر.*1.
لدى التعامل مع "الهوية"، يجب تذكر –على الدوام- أن "الهوية"، إنما هي نقيض الثبوتية والجمود، إلا في حالة الموت بجميع صوره منها الحضاري والسياسي وليس الجسدي فقط - أو التعبير الراديكالي المختزل عن الذات، وفي جميع تلك الحالات فالتعبير عملية معطوبة-. وبما أن "المرجعية" باعتبارها مصدرا من مصادر التعريف الذاتي للهوية –وليس الوحيد أو هكذا يجب أن تكون- فإن القول بثبوتيتها وجمودها إنما هو حكم على الهوية كعنصر فاعل على الساحة الإنسانية فيما عبر عنه مالك بن نبي عامل مؤثر في "التحليل النفسي للثقافة"، ومن ثم حالة من الموت الفكري.


لذا فالمرجعية هي "أداة" لفهم الإنسان والكون والمحيط والعالم والمجتمع الإنساني والغيب، وليس الإنسان والعالم والمجتمع الإنساني والكون أدوات إثبات لتلك المرجعية، وهذا بناءا على أن ازدواجية العلاقة بين الطرفين (الإنسان – المرجعية) هي علاقة بنيوية مبنية على الحركية الدائمة لا ثبوت طرف لصالح الآخر، حيث:
- الإنسان: حركية فكرية.
- المرجعية: حركية استيعابية (تنتهي بالتفسير والاحتواء).

ومن هنا فالقول إن المرجعية هي أقرب ما يكون لـ"إطار" تعريف، إنما هو قول ينتفض نقيضا على نفسه وعلى الادعاء بالاستيعاب، فتلك المرجعية – الإطار، وما يقتضيه القول الإلهي بكمالها الإلهي المطلق، يجب لذلك أن تتحرر من تفاصيل تفترضها تفاصيل الخطاب الوصفية لها كإطار:
أولا: القصور في "الإستيعاب" لما وقع خارج إطارها، فالاستيعاب – ومن ثم المواجهة – هو فقط لما يقع ضمن فضائها المحدد بالإطار – إطارها، والإطار مهما اتسع فلن يحتوي إلا الصورة.

القصور في الاستيعاب مع أن الأصل في الفعلين (داخل وخارج الإطار) إنما هي أفعال جذرها الإنسان ونماذجه الفكرية أيا كانت، وهنا يصبح الفعل الإنساني – فكريا واقعا ضمن فضاء تلك المرجعية بالاستيعاب والمقاربة والقياس، أي أنها أداة بقدر شرحها للعالم والكون والغيب والإنسان، من منظور بذاته إلا أنها تحتويه أولا وأخيرا.

ثانيا: لوصف "المرجعية" بالـ"إطار" منظور أيديولوجي يختزل أي مقاربة موضوعية لها باعتبارها فعلا أيديولوجيا، تستلزم قاعدته "شذوذا" حيويا لصحة تلك القاعدة المرجعية. بلفظ آخر، لا تستوي تلك المقاربة من دون وجود طرفين لا تعدو "المرجعية" أن تكون تعريفا رأسيا للعلاقة بينهما: "مع" أي داخل الإطار، و"ضد" وهم القاطنون خارج ذلك الإطار، أي أن الإطار وجوده لايعتّد به لذاته ولا لقدرته الإلهية –المدعاة- على الاستيعاب، إنما هو من يعطي للـ"نحن" والـ"هم" صفتهما.

هنا تولدت الكثير من الأعراض المرضية الأيديولوجية، كالرفض الجهوي، وهو الرفض الذي تحدده الجهة: خارج الإطار، والذي لا يعد رفضا – كمقاربة موضوعيا، بقدر ما هو إثبات وجود وعلاقة طرفية مع الآخر وليست علاقة موضوعية على أرضية فكرية (أرضية تضمن حق القبول والرفض الموضوعي)، وإن استند على خطاب مطعم بالكثير من الأدوات السوسيولوجية الصحيحة، الذي يعتمد على منطقة اللامنطق وليس تحليله.

ثالثا: ولأن أي ثابت أيديولوجي – مقدس كما في الحالة بين أيدينا -، يستلزم ربطا عضويا بين السلطة والمعرفة، وهو – الربط- أولى أدوات الأيديولوجيا، نشأ هناك نوع من التراتبية السلطوية (الهيراركية)، داخل تلك الحدود الثابتة والمؤطرة، وهو ما يتجلى واضحا على الساحة السياسية، من القول بأن "الإسلامي" أفضل من "المسلم"، فقط لأنه اعتبر العمل السياسي وحدة تعبيرية أيديولوجية فرضها على الآخر هو نوع من التقرب لله، وإحقاق شريعته في الأرض، فتحول الدين من منهج روحاني قيمي إلى منهج سلطوي أو أقرب ما يكون برنامج حزبي.

ولذلك الطقس السلطوي الهيراركي المتدثر – كذبا- بالدين في تاريخنا السياسي العربي إرث متراكم، ولكنه يظل شاذا على العقل السياسي العربي – الإسلامي جذرا- والذي أثبت انفتاحا على الآخر – أي آخر، بشكل متميز. من ذلك الإرث –دوما- الحيلة الأيديولوجية الأولى التي تمثلت في رفع المصاحف على أسنة الرماح، وتلاها للمثال لا الحصر: عندما ربط الأمويون بين طاعتهم والاستسلام لهم، وبين "الإسلام" ربطا لغويا، وعلى الساحة الحالية نجد الكثير ممن يستخدم نفس الربط، وهنا يحضرنا مقولة أبي ذر الغفاري الشهيرة: "عجبت لمن لا يجد قوت يومه ولا يشهر سيفه"*2.

إن المقاربة الأكثر دقة – من منظورنا- لفكرة "المرجعية"، إنما تحول تلك الأخيرة من حالة التماهي والتطابق التام مع "الهوية"، بما يضمن موتها وشلّلها، إلى "أداة" لفهم ديناميكية وعلاقاتية العالم والكون والمجتمع والإنسان، وليست أداة تثبيت أو تقرير له، لما في ذلك من أدلجة ما لا يؤدلج.
وتلك المقاربة، قد اعتمدت نفس اسلوب القياس التمثيلي "الأليغوريا أدبيا"، الذي اعتمد المرجعية باعتبارها "إطارا"، فالمرجعية هي أقرب ما يكون إلى "مركبة فضائية" منها يستمد "رائد الفضاء" الحياة ليعيش في ظروف لا تتناسب وإياه ولا توفر له أساليب الحياة وشروطها، ولا يستطيع حينها –رائد الفضاء- الابتعاد عن تلك المرجعية – المركبة، إلا بما تسمح له هي من "أدوات"، باعتبارها مصدر الحياة في تلك الظروف بعينها.

ولكن ضمن حدود الأرض، تصبح المركبة – المرجعية أداة لتحصيل وتقنين المعرفة (ماديا وروحانيا) وتقديمها ضمن النسق الإنساني كاملا بما تمثله الأرض من أرضية مشتركة لكل البشر وليست استحواذا لفريق دون آخر المتمركز ذاتيا، وذلك باعتبار سمو ما تقدمه المرجعية من إجابات مختلفة تتعلق بالكون والإنسان والعالم والغيب.

المفارقة بين "الإطار" و"المركبة":
ولأن الكينونة البشرية – إنسانية في بذرتها وستأتي الإشارة للأساس الإنساني الفردي في متن المقال- تحتوي على عنصري الوعي واللاوعي، متلازمين معا، فالفعل الإنساني لا بد له أن يتلقى شيئا مفهوما له – ضمن تفاصيل الحاجة الملموسة النسبية -، بما يمكنه من الاستدلال على ما يفوق إدراكه، والعقيدة الشاملة – بمرجعيتها المدّعاة – يجب عليها أن تلبي حاجة هاذين الجانبين من دون تصنيف لما هو خارج وداخل إطارها، فتصبح حينها كاملة الاحتواء للجذر الإنساني كاملا، وإلا حولت إثباتا لنسبية الملموس لا إثباتا لإطلاق غير الملموس، مؤديا إلى تحول تلك التلبية والاستيعاب، إلى فجوة قيمّية إستحواذية، مؤسسة لمشهدين أيديولوجيين سلطويين وليسا حضاريين هامين:
1. الغاية تبرر الوسيلة وبالذات إذا كانت غاية تحقق القيمة الضدية (مؤمنون وكافرون / خير وشر...إلخ).

2.داء الإصطفاء.

إلا أن لتلك الفجوة القيمّية الضدية مستويين:
أولا: نسبي: يتعلق بقضايا المعرفة نفسها، لا بأدلجتها، واستحواذها وفصلها المستحيل عن النسق الإنساني، ذلك الفصل الذي لا يستطيع إلا أن يكون فصلا رأسيا، في حين أن المعرفة الإنسانية وإن تمت "نمذجتها"، إلا أن حل تلك النمذجة بهذا الشكل الانفصالي لا يزيد الفكر الإنساني إلا تمركزا وزيادة في منسوب الأيديولوجيا، في حين أن المعرفة الإنسانية، هي نتاج تشبع القيمة الروحية بمظاهرها المادية كأجوبة لتساؤلات فكرية مبررة لا تقف أما موانع، ولا يمكن أن تكون مظاهرا اصطفائية.
ثانيا: المطلق: المتعلق بالأسئلة الوجودية الكبرى، وهو لا يتحدد بالأجوبة الشافية عن أسئلة مثل اصل الإنسان والوجود والخلق ومصير الإنسان، مهما ادعى أي دين حيازتها، بقدر ما يتحدد بارتباطه بالمستوى الأول ليصب في النهاية في البعد الأهم من المرجعية: القيمة.

ومن هنا يمكن القول إن "الهوية " وإن كانت مرتبطة عضويا بالمرجعية، فديناميكية المرجعية وليس ثبوتها وتصلبها وقدرتها على التصنيف الرأسي الأيديولوجي، لا بد لها أن ترتبط بالقيمة كعامل مؤثر ويؤثر في المرجعية كعنصر محدد للهوية.

وهنا تحضرنا قاعدتان فقهيتان هامتان: فيما يتعلق بالمرجعية: "لا إنكار في مختلف فيه" و"من وسع علمه قلّ إنكاره"، وللقاعدتين أهمية خاصة لاحتوائهما على توصيفات ديناميكية حركية تنسف ثبوتية الإطار وصنميته: الإختلاف وتوسع العلم.



المستوى الثاني: المنطق:
بمعنى أن الخطابات المتصلة بإنتاج المعارف حول الواقع، ليست مجرد أجهزة برهانية أو آلات منطقية أو حتى براهين قاطعة، أو إجراءات، إنما هي ضمن أجساد معرفية ونماذج معرفية.
وهنا تكمن الإنتاجية المعرفية والفكرية (الثقافية في المجموع)، والتي يجب أن تتحرر من الربط العضوي الأيديولوجي، بين النموذج المعرفي وإجراءاته (أولا) وتراتبية العمل بتلك الإجراءات (ثانيا)، وذلك التحرر يضمن الفصل بين الإجراء واستخدامه واستحضار النموذج المعرفي، محولا الإجراء إلى أداة، بلفظ آخر: تعطيل العقل الكلي (أهد أهم مميزات العقل الأيديولوجي).

بمعنى آخر، فإن استحضار عبارة مثل: "اقتضاء الصراط المستقيم في مخالفة أهل الجحيم"، كمنهج وهدف فكري، هو استحضار يجعل من المخالفة – لمجرد المخالفة هدفا، فتصبح العلاقة مع النسق الإنساني هي علاقة إما "مع" وإما "ضد"، ولا يخفى على أحد مدى قصور هذه المقاربة وإن ادعت الفكر منهجا. كما أن الوصفية القيمية (أهل جحيم) تستلزم ربطا عضويا بـ(أهل النعيم)، فتصبح المقاربة الفكرية هي مقاربة مستحيلة، فمن يرتضي أن يقارب فكر (أهل الجحيم)!! من متلازمات "داء الإصطفاء" الكاذب.
أي أن القبلة الفكرية هنا –وكأي قبلة أيديولوجية- لا تتحدد لذاتها بل تتحدد بمدى مخالفتها (أو بالأصح تضادها) مع القبلة الفكرية لهؤلاء "أهل الجحيم"، أي أن الخطاب المتناول لـ"المرجعية" هنا يفعل ذلك ثبوتيتها كخط مستقيم وصراط فيصل بين "نعيم" و"جحيم" لا لذات تلك المرجعية واستيعابها... فالفرق بين النعيم والجحيم واضح، ولا مجال للمقاربة.
قد يرى البعض أن استحضار و/أ وتوظيف خطاب مطّعم بالكثير من الإجراءات التي تنتمي لنموذج معرفي بذاته، إنما هو استحضار لذلك النموذج، ووجهة النظر تلك على وجاتها – ظاهريا-، تعريها حالة الجدب الفكري وغياب الابداع، لارتباط العقل القياس – في هذه الحالة- عضويا بالنموذج المعرفي للآخر – أهل الجحيم -، فيصبح النقد حينها هو نقد أيديولوجي لا يستوي إلا باستحضار فشل النماذج المعرفية الأخرى ككل، وليس لنجاح النموذج المعرفي ذاته*3، فيحول الاختلاف الحضاري هدفا بذاته ولو كان اختلافا من باب إثبات الوجود الأجدب. (من دون المساس بالعناصر الهوياتية المعبرة حضاريا).
وشهد التاريخ الأمثلة الكثيرة من مفكرينا الذين رفضهم العقل الجهوي الأيديولوجي على مدى تاريخه القديم والمعاصر والحديث، وإشهار سلاح التكفير كمشهد صراعي أثبت العقل أنه سلاح الجاهل والفقير، وإن طعّمه بقراءاته المشلولة للنصوص الدينية والتاريخية، وقد تمت الإشارة لعقلية التكفير وارتباطها بالمصلحة والمادة في جزء آخر من الدراسة*4.


المستوى الثالث: البنية:
إذا كان الواقع الانساني ككل واقعا متحولا ومتغيرا، فالمعارف المنتجة حوله لا بد لها أن تكون كذلك ايضا، بل إنها لا تقبض عليه، وإنما تسهم في استقرائه وتحويله واستشرافه، ومن هنا فالأفكار الفاعلة (بإجراءاتها ونماذجها) ليست قوالب محضة (على عكس فكرة الإطار)، بقدر ما هي شبكة متعددة ومركبة من العلاقات تسهم في تحويل الواقع، بقدر ما تنفتح على التحوّل (عكس الدوران في فلك الثبوتية المؤطرة)، ومن هنا فمصداقية الفكرة الخصبة بل وحتى "المقدسة"، على فتح إمكان للتبادل والتفاعل والتحول والتجاوز، على سبيل إعادة التركيب والبناء بلغة التحويل الخلاق، لا باعتبار ثبوتية نص لا يمكنه إحتواء الحقيقة المطلقة، مع تعطيل "السؤال الحر".

وتلك البنية فيما يخص النوسطالجيا – على الساحة الحالية – يعري عورتها الأيديولوجية، حالة الاستيراد المطلق لمنتجات ما فتئت أن "أكلت آذاننا" بخطابها الدائم الرفض لها باعتبارها إجراءات من نماذج "أصحاب الجحيم"، في حين أن تلك الإجراءات "التي يشيطنها ذلك العقل الأجدب" هي التي يستخدمها العقل الأيديولوجي في صراعاته للسلطة، تبعا لقاعدة نسبية – سياسية بحتة: "الغاية تبرر الوسيلة"، ولكن الدين ليس نسبيا.

المستوى الرابع: الفاعلية:
الفاعلية تبنى على ديمومة مساءل البنية، ضمن متغيرات تفاصيل الزمان والمكان، فالفاعلية هي الجزء البراغماتي والخلاق والمنتج، فالأفكار ليست كائنات فراغية لا أبعاد لها، إنما هي "إمكانيات للتداول"، تحتاج لمعالجات خاصة، لا يحددها التنظير أو القيم المطلقة للفكرة فقط، إنما تحررها من قيود الاستحواذات الأيديولوجية، وتفعيل عنصر أخلاقي هام: "القيمة الإنسانية"، وهي القيمة التي تحددها الفردانية كبذرة للجماعة وليس العكس، وإلا تحولت "القبيلة" إلى "القبائلية" و"الطائفة" إلى "الطائفية" و"المذهب" إلى "المذهبية" *5، وما يكشفه الفرق الاصطلاحي من شحنات موجبة محايدة وغير منحازة في الأولى، وسلبية انحيازية قائمة على الإقصاء والتمييز في الأخرى.


من هنا كانت المقاربة للنوسطالجيا باعتبارها "فكرا"، يجب – في منظورنا- أن تتم من خلال تلك المستويات الأربعة: الهوية / المنطق / البنية / الفعالية، مع التركيز على أن العلاقة الرابطة بين تلك المستويات لست علاقة فراغية، إنما هي علاقة:
 1.هرمية: تبدأ من القاعدة الأعرض (الهوية) للقاعدة الأضيق (الفاعلية).
2.عضوية: أي أن الإرتباط بين تلك القواعد أو المستويات هو إرتباط عضوي تفاعلي، فشل الأول (الهوية )، ينتهي بفشل ما بعده. (كما يعري لنا واقعنا).

إن الخلل العضوي والهرمي في المستويات البنائية السابقة، يتمظهر في الكثير من شواهد ساحتنا الفكرية العربية، باعتبار تراكبية وتداخل العلاقة بين العروبة والإسلام تداخلا حيويا لا يستوي من دون الإسلام كعنصر ثقافي وقيمي وفكري وحضاري (وليس فقط سلطوي) هام جدا في القياس النقدي، ومن تلك التمظهرات:

الاستقراء التاريخي:
الاستقراء التاريخي، لمجريات التاريخ السياسي العربي – الإسلامي تحولت بفضل الكثير من العوامل *6 لاستقراء "خرائطي"، لمجموعة من الجزر السلطوية وليست القيمية في "أرخبيل" سلطوي، العلاقة بين جزره علاقة مكانية – مادية - سلطوية وليست زمانية –قيمية- فكرية. بكلمات أخرى أصبح الارتباط التاريخي ارتباطا "تراكميا" بدأ من "المدينة" و"مكة" وصولا إلى "الأندلس" و" بـ"البصرة" و"الكوفة" و"دمشق" و"القاهرة"، و"القيروان"، وغيرها وليس ارتباطا "تعاقبيا بين كل تلك الجزر، مما يعني التورط الفكري والحضاري مع الآخر ومنتجه. هنا نشير للإرث الخلدوني التاريخي، حيث ذكر ابن خلدون في كتابه:

" أما بعد فإن فن التاريخ، في ظاهره لا يزيد عن أخبار الأيام والدول والسوابق من القرون الأول، تنمو فيها الأقوال، وتضرب فيها الأمثال، وتطوف بها الأندية، إذا عضها الاحتفال (...) وفي باطنه نظر وتحقيق، وتعليل للكائنات ومبادئها، وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق..."

أشار الإرث الخلدوني فيما يتعلق بالتاريخ، لنوع من الربط العضوي بين "العمران" و"التاريخ"، ولكن ولأن عطبا عضويا و/أو هرميا في علم الأفكار متى تأدلجت، يؤدي لحرمان "التاريخ" من أرضيته المعرفية، وتحويلها إلى أرضية " سردية"، تنقسم إلى نصفين منفصلين وثابتين: تاريخ"هم" وتاريخ"نا"، والفيصل بينهما حد السيف.."المرجعية"، وهي تمظهرات أيديولوجية، لا تعد أدلجة المعرفة (وفي ألفاظهم أسلّمتها)، هو نوع من أنواع الإنفصال عن التاريخ والنسق الإنساني، وهي مظاهر لا تظهر غلا في عصور الضعف والانحطاط، بينما في عصور ازدهار الحضارة العربية والإسلامية في الأندلس للمثال، كانت الملكة الإسبانية إيزابيل التي تمت برعايتها محاكم التفتيش بـ"تطهير" الأندلس من الإرث العربي، كان فستان زفافها مطرزا بحروف عربية.

وبالعودة لذلك الاستقراء للتاريخ، فذلك "التأريخ" ليس له أن ينتج "معرفة"، أو أن يفسر الأحداث بالأسباب، إنما هو يقرأ التاريخ في فلك "إقتضاء الصراط المستقيم في مخالفة أصحاب الجحيم" وما يستلزمه ذلك من إثبات الفروق القيمية، وللتأريخ هنا أن يعظ وللحاضر أن يتعظ، بما يؤسس للإطار فقط فاصلا بين "الجحيم" و"النعيم" وأهلهما، وتصبح العملية التاريخية إنما هي سرد مسطح يقفز على تفاصيل تاريخية وحضارية خلقت لكل حضارة ونموذج تمايزه وفعاليته وإنتاجيته ضمن تفاصيله، وهو ما يعرف بالخطاب التاريخي الأيديولوجي*7، وهنا يتحول "التأريخ" إلى مفهوم "حكائي" يدور في فلك الناقل وموقفه لا المنقول وسببه، كل ذلك على حساب "العمران" البشري كعلم، لصالح مادية الملموس العمراني كمنتج، لا مسببه. إن التأريخ هو علم "بكيفيات الوقائع"، وليس مجرد "إخبار"، وتلك قضية معرفية أساسية لها علاقة بتحديد المفهوم العلمي للتاريخ، فالخبر من حيث هو مادة "المعرفة التاريخية" –ومشهدها الملموس- يسمح ويستلزم السرد، أما الواقع فهو كمادة للمعرفة التاريخية، لايسمح بالسرد لأنه في بنيته المعقدة ليس حدثا، بل علاقة، أو مجموعة شبكية مركبة من العلاقات، التي هي بالقطع أكبر من المرجعيات المؤطرة، لوقوع أجزاء منها داخل وخارج المنظومة التعريفية الثابتة للإطار، لذا فهي أكبر من ثنائياتها الثابتة وأبعادها.

إن تلك المركزية الذاتية الأيديولوجية المعطلة في عملية الاستقراء التاريخي، تتمركز متخذة من ذاتيتها مركزا للفعل الإنسان وهي أحد أهم تجليات "داء الإصطفاء" الميكافيللي، محولة من تلك المركزية الثابتة، مركزية قيمية، وتصدر منها خطابها الأيديولوجي المتعالي، بهدف الحفاظ على جميع التراكيب العقائدية الدوغمائية الهادفة لتبرير وتنميط الأيديولوجيا، وإختصار وعي المؤمن في السلطة كالطريق الأول للقيمة*8، والسلطة هي دوما منتج إجتماعي (أي أنه وليد المجتمع: أكثر من فردين – طرفين حاكم ومحكوم ) وذلك يبرر القراءة الخلاصية الدائمة للخطاب الأيديولوجي، في حين أن الحضارة هي فعل إنساني.

إن الانتقال من الحيز السلطوي لفكر النوسطالجيا للحيز الحضاري، يجب أن ينطلق من الحيز المجتمعي السالف الذكر إلى الحيز الإنساني، وهنا تظهر قيمة "الفردانية الإنسانية" كعنصر مفكك للأيديولوجيا، هو انتقال للفكر من مجال التطبيق ضمن (الأنا والآخر) التي تحولت سلطويا إلى (النحن والهم)، إلى مستوى إنساني قيمي، وهو منشأ الحضارة ولنا في الفكر الإسلامي الكثير من شواهد تلك القيمة الفردانية في خلق الحضارة، ورسولنا الكريم الذي كان إنسانا فردا في مواجهة جمع كامل (الإنسانية قاطبة) وقس عليه جميع الرسل من قبله، وكذلك الكثير من أدبيات التعامل الإنساني في المخيال الجمعي الإسلامي حضاريا كقوله (ص):

(لايؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)، فشرطية الإيمان ومن ثم تراتبية الفرد – الأصل، ومن بعده الآخر، هي تراتبية لم تأت اعتباطيا في ظل عدم تحديد "الأخوة"، لتصبح أي أخوة إنسانية، فلا ثمرة – جمعية من غير بذرة فردية، أي أن "الإنسان هو الحل" وليست الأيديولوجيا.

فتلك النزعة الفردانية التي أسس لها الإسلام وإن كانت تخضع للفلسفة القرآنية التي تبتغي رضا الله في كل الخطوات الإنسانية الفردية إنما تجعل مع العلاقة الذاتية مع الله هي علاقة فردية قبل كل شيء، فيقول تعالى:
(وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون)، وذلك مع الإشارة لإلغاء الدين الإسلامي للوسطاء بين الله وعباده، وبأن (كل نفس بما كسبت رهينة) (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره. من يعمل مقدار ذرة شرا يره).

ويقول أرنولد توينبي عن دور النزعة الفردية في بناء الحضارات:
"إذ لكل انسان مواهبه الخاصة وشخصيته المميزة، والإبداع البشري هو دائما نتيجة لجهد فردي معين، وهذه القدرة الفردية الخلاقة هي رأس المال الوحيد الذي يملكه الأنسان، والمجتمعات التي أعطت الفرد الفرص الضرورية للقيام بعمل منتج هي المجتمعات الأكثر تقدما وتطورا، وعندما تقيد هذه الفرص بمطالب سياسية أوعائلية، فمعنى ذلك شلل القدرة الإبداعية للأفراد، والانسان الذي يمتلك مواهب شخصية ممتازة يستطيع استخدام هذه المواهب بطريقة أخلاقية خيرة كما يستطيع استخدامها للإضرار بمصالح الآخرين، وهذا يعني أن النزعة الفردية يمكن أن تؤدي إلى نتائج ضارة بالمجتمع إذا لم توضع تحت السيطرة الأخلاقية ]القيمة الإنسانية كما يطرحها الكاتب[ ويبدو أن الغرب قد أطلق العنان لهذه النزعة فكانت نتائجها سلبية على حساب الصالح العام وعلى صعيد العلاقات الإنسانية"، وهنا تظهر المسؤولية الأخلاقية كواجب إنساني وليست كاستحواذ ايديولوجي*9.

في النهاية يجب أن نشير إلى ضرورة التركيز على الواجب الإنساني، باعتباره أصل الإنسانية وليس الأيديولوجيا فيما يتعلق بالدراسات المتعلقة بالنصوص الدينية، والتي نقسمها إلى:
أولا: القراءة الإيمانية أو اللاهوتية، وهي قراءة ذات أدوات أرثوذكسية هيراركية، تعطل العقل لصالح النقل، وتضيق حيز التأويل، لتبقي العقل الفردي حبيس الدوغمة المغلقة، لصالح تمظهر الجماعة سلطويا لا حضاريا، وتلك القراءة تستلزم نوعا علاجيا من الفكر التفكيك أو بالمصطلح الفوكوي "الحفر المعرفي"، من خلال مناهج كشف القيمة، وهذا سينتهي بنا إلى القراءة الثانية وهي قراءة يتحول فيها النص من المركزية الاهوتية إلى مركزية إنسوية، ضمن حيثيات النقد التاريخي والتحليل الألسني المتعلق باعادة إكتشاف المعنى والقيمة كمرجعية ديناميكية وهي قراءة تطبيقية تركز وتنطلق من مسؤولية الإنسان الحضارية.



العالم بستان سياجه الدولة - الدولة سلطان تحيا به السنة - السنة سياسية يسوسها الملك - الملك نظام يعضده الجند - الجند أعوان يكفلهم المال - المال رزق يجمعه الرعية - الرعية عبيد يكنفهم العدل - الهدل مألوف وبه قوام العالم

مخطوط 1936 المكتبة السليمانية اسطنبول الأطروحات السياسية ومبادئها المنسوبة إلى أرسطو كما صاغها ابن خلدون



___________________________________________________
رابط المقال على صفحات عرب ال48:
http://www.arabs48.com/?mod=articles&ID=80672


الهوامش:

1. الآخر هنا هو متسع بقدر ما من الممكن أن يحتويه الآخر: العالم الإنسان الكون والله والمحيط.
2. بما معناه.
وهنا تظهر لنا مدى الجهل المؤدي في النهاية إلى التطابق مع قراءات المستشرقين للإسلام، باعتباره أيديولوجيا، ففي النهاية كلها أيديولوجيات، في حين أن الدين أسمى وأعلى من عقول البعض وقراءاتهم السلطوية.
3. وهنا تظهر القراءة الانتقائية والأيديولوجية الجاهلة للتاريخ وكأنه علم سردي لا ينتج معرفة ولاهو علم علاقات.
4. التكفير عقلية ميكافيلية:
إن أيدولوجيا التكفير وبالرغم من استنادها إلى إرث تاريخي عقدي، تستمد منه طاقته الدافعة، إلا أنها لا تستطيع البتة إنكار حقيقة داعرة الوضوح بالشبقية السلطوية الباحثة عن شرعية "الرمز"، ذلك الرمز الذي جعل الحياة الرمزية إنما هي تعويض عن الحياة الاجتماعية لا ترجمة لها أو تعبيراً عنها، فشرعية "الرمز" المدعاة، والشبقية السلطوية لاستلابها تفترض خرساً في الرمز يستلزم وكيلاً عنه، يتحدث باسمه، وباسمه يتصرف وعنه ينوب.
في الأسس التكفيرية:

تنبني عقلية المُكفِر على عنصرين أساسيين يعطيان بنيته التكفيرية حيزها وماهيتها الثابتة وهما:

1. عنصر سياسي: يرتبط بجمل المصالح الاجتماعية التي تمثلها فكرة التكفير وتمنحها الشرعية والسلطة.
2. عنصر معرفي: يتعلق بالبديهيات غير المفحوصة التي تشتغل في وعي المكفر والتي غالباً ما يلجأ حيالها لسلاح التكفير وهو السلاح الأكثر عدمية أخلاقية.


5. بحسب تعبير المفكر عبدالله الغذامي في كتابه: "القبيلة والقبائلية أو هويات ما بعد الحداثة" – المركز الثقافي العربي – بيروت والمغرب - 2009.
6. وذلك بفضل عوامل كثير، منها: تقديس التاريخ الأيديولوجي، داء الاصطفاء، الغرق في قدسية السلطة متى كانت توكيدا لعلاقة بين "أصحاب نعيم" و"أصحاب جحيم"، على حساب موضوعية الفكر الإنساني وفصل القيمة عن السلطة.
7. من أمثلة ذلك: وصف المعتزلة بأنهم مجرد فريق ثوري خارج عن الملة، لم يقدموا شيئا للفكر الإسلامي، وكذلك التعامل اللغوي – الديني مع لفظ "فتح" فيصبح الفتح الإسلامي: من فتح الصندوق – اشتقاقا وإدخال النور على ذلك الصندوق المعتم، وما في ذلك من حكم قيمّي رأسي (عتمة ونور) على الآخر المفتوحة بلاده، والتاريخ العربي -الإسلامي أثبت عوار هذه النظرة المتعالية الأيديولوجية واختزاليتها الحضارية.
8. كالادعاء بأفضلية الإسلامي على المسلم، ويصبح المتبع منهج إسلامي سياسي هو أقرب لله من المسلم المؤمن لمجرد قبوله بتلك الأيديولوجيا معبرا دينيا عن صورة السلطة، ولا عزاء للحضارة إذا ما اختصرت في الكرسي والكرش.
9. يجب الإشارة هنا إلى الإرث المعتزلي متمثلا في حي بن يقظان مثالا لا حصرا.

Saturday 2 April 2011

من أوراقي : "تلك"


هي امتداد للظل ، على حساب النور ،"تلك" البلاد ، ما أبشع أن يحيا المرء ضحية مرض إصطلاحي ، لايعي فيه الضوء من العتمة ، يرى الأول ولا يدركه ، وتبتلعه العتمة ، ولا يعترف.
بلاد ضيقة بامتداد ظلها ، تلك البلاد.
حينما تعرت أمامي تلك الفكرة ، شاخصة في ذهني ، عبّرت عن نفسها بكلماتها هي ، لا بكلماتي ، أليست كلمة "تلك" إعترافا بالتورط فيما وصفته الفكرة السابقة –بكلماتها- ؟
أغرق في عتمة الظل ، لا أدرك كنهه ، و أنفضه عني بادعاء كاذب ، مستخدما "تلك"، و كأنني أنا في الضياء و تقبع تلك البلاد في العتمة ، "تلك" العتمة ، و"ذلك" الظل ، ومزيجهما الكاذب حولي يفضحني ، ويفضح فقدا لغويا فيّ ، يزيدني في التورط اللغوي.
أوجه تحيا خائفة من سطوة ظل متشح بمادة أحيانا ، ودين أحيانا وبسلطة أحيانا أخرى.
أرواح تجهد نفسها في الكذب ، و إنتهاك الحقيقة ، تلوك السراب حقيقة ، وتجتره كذبا ، وتطرز له اللغة ،  بلاد لا تحضر إلا بقدر الإشارة في ضمير ، يخلق الحاضر سرابا بعيدا بقدر الواقع .
بلاد هي اضيق من حدود الأنوثة ، و الحب ، و اللغة ، بلاد تتمدد ، على قدر إنكماش الحب فيها  ، لتصَير اللغة فيها عجزا ، يتمدد ككائن رخو أسود لا معالم له ولا تعاريف ولا صوت ولا أبجديات ، يحيط بأهل "تلك" البلاد ، فيحيلهم  "كائنات ظلّية خرساء" معطوبي اللغة ، و الأنوثة و الحب.
اللغة التي و إن نصت على أن التضّاد ، يوضح المعنى ، يظل المعنى الوحيد لها ، أن التضاد هو الواقع و الرمز ، دون أن يحيلنا ذلك لأي معنى غيره ، فتصبح اللغة حينها دورانا في اللامكان كطقس وثني ، دورانا يختزل الإنسانية إلى مجموع حروف صوتية لا تلتقي لتكون معنى ، بقدر ما تتضاد...للتضاد ، وليذهب المعنى إلى الجحيم .
بلاد "تلك" التي تقدم هوية ، سرطانية لا تتماهى مع ذاتها إلا بضدية الآخر ، لاتوضح إلا بقدر ما توهم ، أليست وليدة "تلك" العتمة و الظل ، فيتقدس حينها الظل ، وتنهار التعاريف.

***************
اي الذوّات تتلبسني ، في "تلك" البلاد؟
مهلا.....

اللعنة على "تلك" ، وعلى "البلاد" ،بل اللعنة على "أنّاي" التي لاتملك شجاعة مواجهتي – على الأقل-  ، فتلقي على كل ماعداها "الظل و "اللغة" و "البلاد" و "الضمير" اللعنات .
 اللعنة على عجز التعاريف و التخيل ، اللعنة على الرمز و الواقع ، اللعنة على المجاز و البيان معا ،  المجاز الذي خلقته "تلك" ، و البيان الذي تعريه "البلاد" ...فكلاهما لن يحتويا "تلك" البلاد ، بامتدادها وضيقها.

*****************

أي البلاد "تلك" ، التي لا يملك أحد فيها شجاعة الاعتراف بالضوء إلا الشجر ؟
أي البلاد "تلك" التي ، تدفع أشجارها ثمن أمراض أهلها الإصطلاحية؟
أي البلاد "تلك" التي لاتملك حسما لعلاقة قديمة قدم الله ، بين الضوء و العتمة ، بين النور و الظل؟
أحسد الأشجار ، لشجاعة الإنتصاب دفاعا عني و عن غيري ، دفاعا عن حياتية الضوء ، في بلاد العتمة ، دفاعا عن معنى مهما إشتد التضّاد .
أحسد الأشجار أن إنتصبت دفاعا عن شجاعة "هذه" ، وجبن "تلك" في وصف البلاد.
أحسد الأشجار أن إنتصبت وقوفا ، في ظل ضيق الحب و الأنوثة و اللغة ، أن إنتصبت وقوفا في بلاد أضيق من "هذه" و "تلك" .

Wednesday 19 January 2011

في نقد النوسطالجيا : (3) : في الفكر : (7) : التكفير عقلية ميكافيلية

في المجتمعات الحديثة، نجد "مواطن" و"مجتمع" و"دولة"، اما في عالمنا العربي، فهناك "مواطن" و"كيانات تقليدية" و"دولة"، إلا أن كل ركن من هؤلاء الأركان الثلاثة يتميز بما يخالف ما يؤسس له المصطلح، فلا المواطنة مواطنة، ولا الدولة دولة، ولا الكيانات التقليدية تقليدية.

يمكن القول إن "الكيانات التقليدية" كالعشيرة والطائفة والجماعة الدينية والقبيلة...إلخ، تقف حائلا بين المواطن و الدولة، إلى أن طغت على الدولة في العصر الحديث، وتلك الدولة دولة ريعية مترهلة ومركزية التي جعلت من مواطنة "مساكنة".

لذا وإن كانت الدولة في أمس الحاجة لإعادة هيكلة للبنية الداخلية لها، وتأسيس للقيم الإحتوائية لها –وليس تلك الإستحواذية –، فذلك لا ينفي -أيضا- الحاجة إلى تفكيك تلك "الكيانات التقليدية " وتحرير كتلها الحرجة، بتحليل للقوى فيها، وذلك للإرتقاء بالمنظومة ككل، إلى الحيز الحضاري خروجا من الدائرة السلطوية التي تشكل سقفا لتلك الكيانات التقليدية بكل ما يعتمل في أحشائها من مرجعيات مقدسة السلطة شبقية العنف.




لدى تشريح بنية كل تجمع بشري، يمكننا رصد وبوضوح ثلاثة تكوينات أساسية*1:
- المؤسسات التقليدية.
- منظمات المجتمع المدني.
- الدولة.
ويشكل التفاعل فيما بين تلك التكوينات الثلاثة، ما يمكن تسميته (رأس المال الإجتماعي)، والذي ينعكس في التضامن والتكامل والإحترام المتبادل في العلاقات السائدة بين الأفراد المكونين لذلك التجمع البشري، على مستوى أفقي، تجمعهم الدولة ككيان ذي مستوى رأسي، لنقطة البداية فيه زاوية لها ظل. وقبل الخوض في تفاصيل (رأس المال الإجتماعي) وتصنيفه، تجب الإشارة للنقاط الثلاث السابقة بالتعريف:

 أولا: المؤسسات التقليدية  

وهي التكوينات الاجتماعية التي تكون العضوية فيها "غير تطوعية"، أو بمعنى أكثر دقة "إجبارية"، وتتغير تبعا للعديد من التفاصيل الجغرافية والتاريخية والإثنية والدينية والأيديولوجية وغيرها، ومن أمثلتها: عضوية العشيرة والقبيلة والجماعة الدينية والمنطقة...إلخ، وتنبني هذه التكوينات على أساس ما يسمى "النزعة الاستبعادية"، حيث تضم تلك التكوينات هؤلاء الذين تنطبق عليهم الشروط و/أو الشرط للعضوية، وتنغلق أمام غيرهم.

ثانيا: منظمات المجتمع المدني

وهي المنظمات غير الحكومية (وغير الإرثية بالتعبير القانوني)، والتي تملأ الفراغ بين المؤسسة التقليدية والأسرة، وتعمل على تحقيق أهداف أعضائها بطرق سلمية: كالأحزاب السياسية والنقابات والمنظمات غير الحكومية والأندية وغيرها، وإن كان لتلك المنظمات شروط إنضمام، إلا أنها شروط ليست استبعادية، لا على أساس الجغرافيا ولا اللون ولا العرق ولا الدين، إنما تقوم على أساس مشترك، كأعضاء حزب سياسي معين أو جمعيات موسيقية أو جمعيات حقوقية أو غيرها.

ثالثا: الدولة
وهي الكيان السيادي التعاقدي الأكبر المحتكر للسلطة وممارستها في إقليم جغرافي معين ضمن بروتوكولات سياسية شرطية ذات قنوات تنفيذ وتقنين منفصلة. وعضوية الدولة ليست استبعادية إنما استيعابية (وفي تعبير آخر احتوائية) فيما يعرف برباط المواطنة.


وانطلاقا من تلك الكيانات الثلاثة، قدم "ويليام وولكوك" الباحث السياسي في جامعة هارفارد نموذجا لقياس "رأس المال الاجتماعي" قائما على التفاعل بين تلك الكيانات الثلاثة في مصفوفة رياضية يتجسد فيها "رأس المال الإجتماعي" بنوعيه "العابر" و"الجامع"، وهي أطروحة قدمت من قبل عن طريق عالم الاجتماع الأمريكي الشهير روبرت بوتنام*2:

أولا: رأس المال الإجتماعي - الجامع:

 ويأخذ تسميته من كلمة bonding الإنجليزية، والتي تعني اللحمة والتماسك والإندماج في مواجهة "الآخر" المختلف الـ"مستبعد"، ويقصد بهذا النوع من رأس المال الأجتماعي – الجامع، تلك التنظيمات – سالفة الذكر – التي تضم هؤلاء المتقاطعين لا إراديا في عناصر ثابته كالعرق والدين والجنس وغيرهم، وتلك – التنظيمات - تعمل بوصفها "شبكة أمان" اجتماعي، وفي بعض الأحيان، تؤدي عمليات "التكثيف" لرأس المال الإجتماعي الجامع إلى تعطيل عمليات التلاقي والحوار المجتمعي، وهو ما رصدته إحدى الباحثات في محاولات بعض المؤسسات الدينية التي تضم أعضاء أنجلو ساكسون إلى إغلاق الباب أمام انضمام أعضاء جدد ينتمون إلى المجتمع الديني نفسه (المرجعية ذاتها) ولكنهم من جذور أفريقية *3، وتلك الحالة ليست ببعيده عن واقعنا العربي.

ثانيا: رأس المال الإجتماعي – العابر:
 ويستمد مسماه من الكلمة الإنجليزية Bridging وتعني الاتصال أو التجسير- من الجسر، أو التلاقي بين أفراد وجماعات من ثقافات مختلفة ومغايرة (وهي ضفاف الجسر المفصولة)، وتلك الكيانات مفتوحة العضوية، تحترم تعدد المشارب والمنابت و الثقافات، وتنطلق من أرضية "المشترط" بلا "استبعاد".

وانطلاقا من التصنيفين السابقين لرأس المال الاجتماعي، فإن التصور الأمثل لوضعية ذلك المجتمع، يتجسد في ارتفاع منسوب كلا النوعين مما يضمن:
1.تماسك الوحدات البنيوية المكونة للمجتمع.
2.الانفتاح بين تلك الوحدات البنائية لكل مجتمع، على أرضية واحدة.

أما ولأن ذلك الوضع هو وضع مأمول، توجب علينا النزول لأرض الواقع، لتتعرى أمامنا الاحتمالات المتعددة للعلاقة بين رأس المال الاجتماعي بنوعيه، ومن تلك الاحتمالات وهو ما يهمنا بالأخص هاهنا:

حالة ارتفاع منسوب رأس المال الاجتماعي – الجامع، و انخفاض رأس المال الاجتماعي – العابر:
حيث تظهر المجتمعات المنغلقة على أعضائها، وتقل الفرص الاجتماعية للتلاقي والتحاور، وفي المقابل يمثل كل حدث اجتماعي وسياسي على الساحة مشهدا من مشاهد الصدام والشماتة والتشفي المجتمعي في ذات الجسد المجتمعي بين الكيانات المختلفة، التي أغدقت على نفسها الكثير من مخيالات التمركز الذاتي، المتمثل في الكيان ككيان أوحد لهوية الدولة.*4


ولكن ما العلاقة بين كل ما سبق، والتكفير كظاهرة في الوعي – المدعى- إسلاميا؟

تاريخنا العربي والإسلامي في عصره الوسيط والمعاصر لا يخفي رابطا قويا بين ظاهرتين:

1.تدهور الدولة المركزية إما بضعف أصاب سلطانها أو مصاب أصاب مركزية حاكم أو/ و شخص مؤسس.
2.ظهور حركات العنف المقدس - التكفير.

ويتضح ذلك الرابط الديني - قناعا والسياسي – جذرا جليا في "حروب الردة" كمثال –مهما اختلفت تأويلاتها- لأول بيان رسمي يعلن ميلاد أيديولوجيا التكفير. وامتدت سرطانات تلك الأيديولوجيا المقدسة، لعثمان بن عفان من قبل معارضيه، وبعده علي بن ابي طالب أمام تيار "المستضعفين"، ممن ينتسبون إلى مرجعية صحابية "ثورية" مقدس مقابل مقدس *5، وأسرفت تلك العقلية في اجترار نفسها إلى أن أنتجت أول حيلة وأقدم حيلة ايديولوجية عدت اختصارا لكل تمظهراتها، وهي حيلة "رفع القرآن على رؤوس الرماح" في رمزية فاضحة تجمع النص الديني – الروحاني – المطلق، و الرماح – العنف – المادي - النسبي، حيث كان شعار الخوارج حينها "لا حكم إلا لله".
وهنا كانت الفواصل بين "الديني" و"السياسي" في أيديولوجيا التكفير ذائبة، بحثا في ظل غياب الدولة على عنصرين إثنين:
- السلطة
- الشرعية
وبالتقدم في سياق التجربة التاريخية، يتبدى لنا تهافت البنية المدعاة معرفية – فكرية – عقدية، لصالح الشبقية السياسية تجاه السلطة والشرعية، مثال ذلك تكفير أبو حامد الغزالي للفلاسفة في القضايا اللاهوتية الثلاثة (قدم العالم، والعلم الإلهي، والحشر والمعاد)، أو تكفير أهل السنة للمتصوفة كالحلاج و ابن عربي، بالتهمة المطاطة التي يسهل ويعاد تعليبها واجترارها: "الحلول" و"وحدة الوجود"، فما فعله الغزالي وابن تيمية و ابن القيم الجوزية في مواجهة "الباطنية" و "المبتدعة"، و الدعوة الصريحة لسفك دمائهم*6 والتي هي حرام حرمة "يومي هذا في...الحديث".
إن ذوبان الفيصل بين "الديني" و"السياسي" في تلك الأحداث يعريه السياق التاريخي لمسار السلطة السياسية، كمثال: الصراع السياسي بين السلطة السنية و المعارضة الشيعية المتنامية وقتها خاصة بعد انفراط عقد الخلافة ووحدة الدولة ومركزيتها، وتوزعها إلى أربع دول: أندلسية – عباسية في المشرق، فاطمية في مصر ومرابطون في المغرب.
كل ذلك، وبمعية مشاهد واقعنا العربي في المائتي سنة الأخيرة، ستتجدد فكرة التكفير وأسسها السلفية الحديثة التي تستفيد من عناصر إجتماعية وعالمية مختلفة، منها:

1.انفتاح فضاء الاتصالات، وسرعة انتقال المعرفة والمعلومة –بعيدا عن صدقيتها وموثوقيتها- في ظل أمية تعليمية ومن ثم ثقافية عميقة.

2.وضع حضاري وسياسي ومدني وحقوقي مزر، يؤسس للتجلي الأبرز لعبارة ماركس الشهيرة*7 وبالذات في شقها الثاني الأقل شهرة، "الدين أفيون الشعوب، ومتنفس المقهورين".




إلا أننا هنا يجب أن نتوقف لنوضح أن الفكر الإسلامي المعاصر يرث عن سابقه الوسيط ذلك التوتر الإشكالي الحاد بين الحقل الدلالي لمفهوم "الاجتهاد"، و الحقل الدلالي لمفهوم " البدعة"، إلا أن الفكر الإسلامي الوسيط وعلى الرغم من كل ما أبداه من إصرار شديد على التأقلم مع متغيرات الواقع وحوادثه، بما يضمن للمقدس (الديني) مرجعيته، لم يكن ليجد نفسه في حالة من الجهد والإرهاق الفكري الحاد الذي يضغط على استعداده أو يهز إطمئنانه واستقراره النفسي، وذلك لأنه كان يتعاطى مع نوازل طبيعية تقع ضمن دائرة (الممكن) الإسلامي، أي في مدار حيز فكري واجتماعي وفلسفي لم يكن عصيا على المقاربة الديناميكية الإسلامية، من ذلك أن الفكر الإسلامي لم يجد صعوبة تذكر (فيما خلا حالة الغزالي وأشباهه) في الانتهال من التراث اليوناني وهضمه وتكييفه مع الثوابت العقدية، ولم يرفضه رفضا جهويا –بادعاء "بناء المفاهيم" – لمجرد إثبات الحضور على الساحة على وزن أنا أرفض إذن أنا موجود، لذا كان في وسع الفكر الإسلامي الوسيط أن يمارس الاجتهاد بوصفه طقسا فكريا طبيعيا، وألا يلق بالا لمن يجحده السلطة أو الشرعية.
ولكن الحال يختلف لدى الفكر الإسلامي المعاصر، الذي باتت عقليته السجالية في مظهرها التكفيري أهم معلم دال على عقلية تطورت من "أنا أرفض إذن أنا موجود" إلى "أنا أكفِر إذن أنا موجود"، فالنوازل التي تقع على رأسه ليست وليدة مجتمعه أو "تقارب حضاري" مقدور عليه، إنما هي حقائق مفروضة عليه من مجتمعات وحضارات أخرى ألحقت به الهزيمة وأضعفت مركزيته ومرجعيته وأدخلت مجتمعاته في دائرة حضارية وفكرية واجتماعية وقيمية جديدة عليه، لذا يتوجب عليه التعاطي مع الممتنع عله يصبح ممكنا. ومن هنا بات "الاجتهاد" مقاومة للعقل السجالي، المستند على مقولات فكرية مسقوفة بتعطيل الزمان والمكان بما يكفل تعطيل التأويل والتفكيك والتركيب لصالح ثبوتية النص هم أصحابها الأول مأسسة حالة الخدر والكسل العقلي والنقدي، لذا باتت تلك المقاومة أصعب من ذي قبل لعديد العوامل:


1.جدب ذلك العقل السجالي وتعاميه عن واقع ديناميكية وتطور العقل الإنساني، في حالة ولا أفضل لتمثيل عقلية قوم نوح الذين أغمضوا أعينهم متى رأوا سيدنا نوح يبني سفينته، مقنعين أنفسهم أنه غير موجود... بمنتهى الغباء.
2. الاجتهاد بالنسبة للتكفريين إنما هو خروج ومروق عن الملة وليس محاولة تقريب.
3. إن رجال "الاجتهاد" لم يكتفوا في اجتهادهم – أصابوا أو أخطأوا – بمعارفهم الإسلامية فقط، بل أدخلوا إلى منظومتهم الفكرية الإسلامية معطيات نظرية ومعرفية جديدة مستقاة من "الآخر".
4. فكر التحديث*8 إنما هو بث حياة في العقل كفعل إنساني أصيل، وهو ما يستفز التيار المتحجر ( النوحي – نسبة إلى قوم نوح) المحافظ (والمحافظ لفظ قاصر عن إجمال الوصف).

إن أيدولوجيا التكفير وبالرغم من استنادها إلى إرث تاريخي عقدي، تستمد منه طاقته الدافعة، إلا أنها لا تستطيع البتة إنكار حقيقة داعرة الوضوح بالشبقية السلطوية الباحثة عن شرعية "الرمز"، ذلك الرمز الذي جعل الحياة الرمزية إنما هي تعويض عن الحياة الاجتماعية لا ترجمة لها أو تعبيراً عنها، فشرعية "الرمز" المدعاة، والشبقية السلطوية لاستلابها تفترض خرساً في الرمز يستلزم وكيلاً عنه، يتحدث باسمه وباسمه يتصرف وعنه ينوب.
في الأسس التكفيرية:

تنبني عقلية المُكفِر على عنصرين أساسيين يعطيان بنيته التكفيرية حيزها وماهيتها الثابتة وهما:

1. عنصر سياسي: يرتبط بجمل المصالح الاجتماعية التي تمثلها فكرة التكفير وتمنحها الشرعية والسلطة.
2. عنصر معرفي: يتعلق بالبديهيات غير المفحوصة التي تشتغل في وعي المكفر والتي غالباً ما يلجأ حيالها لسلاح التكفير وهو السلاح الأكثر عدمية أخلاقية.

وبقراءة متمعنة لتاريخ عقلية التكفير يمكننا القطع بأن إخراج المكفَر ( من وقع عليه فعل التكفير ) من دائرة الأمة (الروحية ) – جماعة المؤمنين، ليس إلا ترتيباً دينياً رأسياً يقصد به في الأساس – بجانب الاستحواذ القيمي – إخراجه من نظام الحقوق والامتيازات المادية والمعنوية. لذا فالتكفير كفعل أيدولوجي لا دين له إلا المصلحة البحتة، ورفع رأس المال الاجتماعي – الجامع الذي يؤدي لتفكيك البنية المجتمعية لصالح الجماعة أو الطائفة. أي أن التكفير وإن لبس لبوساً دينياً فلا يجب أن يصرفنا عن الخلفية غير الدينية التي تؤسس لها عقلية "الغاية تبرر الوسيلة"، وانعكاسها بمنظار السسيولوجيا الثقافية التي تستلزمها مراقبة مجتمعاتنا العربية وتفضح ظواهرها المادية، وصراعات قواها الداخلية الدينية، وذلك سببه يعود لمقاربة أيدولوجية غير أمينة لـ " مركزية الدين في الهوية والثقافة".
لذا نجد أنفسنا في موقع الرفض لمقولة حنة أرندت *9 إن العنف تاريخياً لم يترك مسيرة خطية واضحة تسمح بضبط تطور تصوراته، فبعد صدور عمل ميشيل فوكو عن المراقبة والعقاب، أضحى بالإمكان صوغ عملية تأريخ حاسمة لتكون الإمكانية "الحديثة" للعنف؛ حيث درس طبيعة التحول الذي أصاب عملية "السلطة" من مجيء الدولة الحديثة، بما أنها في الأساس دولة مراقبة، ما صيَّر طبيعة العنف مرتبطة بهذا الطابع الجديد للسلطة حيث أن العنف ارتقى من عنف صريح خارجي إلى آخر متخف داخلي في عملية مراقبة الأفراد *10، باعتبار الفرق بين العنف كمظهر مادي والسلطة كمظهر رمزي، واحتياج الأخيرة لذلك الأساس المشرعن، في تحويل واضح للأسس الدينية – نصياً التي تفصل بين العقيدة والغنيمة *11.
إن الإيمان بحيازة الحقيقة المطلقة هو المنبع النابض لأيدولوجيا التكفير، والذي يعطيها حيزها الوجودي اللازم لحمى زيادة رأس المال الاجتماعي – الجامع على حساب العابر، فقد تميزت الحضارة الإسلامية بإعطاء الحيز الأفقي اللازم لرأس المال الاجتماعي بنوعيه وحضور الدين الإسلامي فيهما بما يتناسب مع تفاصيل الزمان والمكان الحضارية، جاعلة من عقلية " أنا أكِّفر إذاً أنا موجود" تمظهراً للسقوط الحضاري والسلطوي، وليس تماسكاً فكرياً وعقلياً، ومن شواهد التاريخ:
1. مقولة المعتزلة معبرين عن أنفسهم أنهم "أهل عدل"، مقدمين العدل بتعريفهم "توفير حق الغير، واستيفاء الحق منه" *12.
2. " الرشدية اللاتينية " نسبة لابن رشد والتي أسست بحسب وصف مارتن لوثر لفصل سلطة الكنيسة عن علاقة الإنسان وخالقه، معلناً مولد البروتستانتية.
فمن مقولات ابن رشد: "... ومن العدل أن يأتي الرجل من الحجج لخصومه بمثل ما يأتي به لنفسه، أعني أن يجهد نفسه في طلب الحجج لخصومه كما يجهد نفسه في طلب الحجج لمذهبه وأن يقبل لهم من الحجج النوع الذي يقبله لنفسه" *13.


الظل لا يكشف الحجم الفعلي للجسد المعرفي بقدر ما تعري ظلاميته قدر طفولته الفكرية


إن القارئ لأغلب ما يأتي به أصحاب " العنف المقدس – المؤدلج "، لا يخفى عليه جنوحهم للدفاع عن ممارستين شاذتين:

1. ممارسة السياسة في الدين: بإخضاع الإسلام إلى متطلبات السياسة والمصلحة والصراع.
2. ممارسة الدين في السياسة: من خلال بناء موقع قوي فيها باسم "المقدس".
ومن هاتين النقطتين تتولد الحاجة للعنف – التكفير بحثاً عن شرعية بتلك الممارسات، وسلطة ممارسة المظهر القيمي الذي لا يستوي بنيانه من دون حضور "المدنس" الذي يقابل "المقدس".

فإن كان " الفكر الإسلامي لا يعرف فكرة "رجال الدين" كما عرفها الغرب المسيحي. إنما يعرف "علماء الدين" المتخصصين في دراسته وفقهه، أما بعد ذلك فكل مسلم رجل لدينه " *14. فالعنف إنما هو حاجة لسلطة ترتفع بمنسوب "رأس المال الاجتماعي – الجامع"، لمستوى سلطة الدولة وشرعيتها، ولكن "أن تكون الدولة إسلامية فليس لأنها دولة دين هو الدين الإسلامي إنما دولة المسلمين، ولأنها دولة المسلمين فمصدر شرعية السلطة فيها هو للشعب والأمة" *15.
كما أن "ليس في الإسلام سلطة دينية، سوى سلطة الموعظة الحسنة والدعوة إلى الخير والتنفير من الشر، وهي سلطة خولها الله لأدنى المسلمين يقرع بها أنف أعلاهم، كما خولها لأعلاهم يتناول بها من أدناهم. أصلٌ من أصول الإسلام – وما أجله من أصل – قلب السلطة الدينية والإتيان عليها من أساسها، هدم الإسلام بناء تلك السلطة، ومحا أثرها، حتى لم يبق لها عند الجمهور من أهله اسم ولا رسم، ولم يدع الإسلام لأحد، بعد الله ورسوله سلطان على عقيدة أحد، ولا سيطرة على إيمانه" *16.

إن ارتداد بعض من كانوا بحسب تصنيف ويليام وولكوك "قوارض اجتماعية" إلى بعض "أقطاب" العنف وهيراركيته المقدسة، إنما هو ليس لبنية معرفية حضارية يسجله التاريخ، إنما هو لتجييش مشاعر جمهور ساقط سلفاً تحت وطأة الانسحاق والخلل الاجتماعي وغياب الدولة،" لتخرج من ذلك كله حمماً حارقة تصيب الجماعة والأمة في بقايا وحدتها وتماسكها واستقرارها المدني " *17، لتعطيهم حجماً "كرشويا ً" لا يكشف شيئاً بقدر ما يغطي عنهم أين يقفون في هذا العالم؟.


كان المرحوم ناجي العلي أول من أرّخ لعقليات الكروش العربية باختلاف تقيحاتها الأيديولوجية


***************************************************************
الهوامش:
 رابط المقال على صفحات عرب ال48:

*1: على ضوء دراسة بعنوان:"رأس المال الإجتماعي " للباحث الأمريكي ويليام وولكوك.
M.Woolcock, Social Capital and Economic Development: toward a theoretical Synthesis and policy framework, Theory and Society>
*2: وقد أعيد تقديم كلا البحثين في العدد ال29 من مجلة التسامح الفكرية الفصلية الإسلامية، الصادرة عن وزارة الأوقاف و الشؤون الدينية في سلطنة عمان.
*3: Margret Gelbert , Sociality and Personality , New Essay in Plural subject Theory.
وهنا تفرق غلبرت بين الالتزام الشخصي، والالتزام الذي يترتب عليه الشعور بالتضامن المشترك؛ في حالة الالتزام الشخصي يكون مصدر الالتزام الشخص ذاته، أما في حالة الالتزام المشترك فان مصدر الالتزام يكون خارجا عن إرادة الأفراد-الأعضاء جميعا، ويصبح هناك حق متبادل لكل عضو في المجموعة في الحصول على نصيب عادل من الدعم، في المعلومات التي تتدفق في أرجاء الكيان المؤسسي، ولايخفى العلاقة العضوية بين المعرفة والسلطة.
*4: لدى مراقبة تلك المشاهد – الأيديولوجية المركبة، على الساحة العربية، نلحظ غياب مؤسسات المجتمع المدني لحساب تكوينات الطائفة والعرق والدين، بعيدا عن الإشارة الأهم وهي غياب سلطة الدولة، الداعي لتلك التكوينات للمزايدة على منظومة الدولة وسلطتها، مستفيدة من خطأ الأنظمة عندما عملت على توظيف الدين – المذهب خطابيا بحثا عن شرعية مدعاة و مفقودة، لإستثارة سلطة أيديولوجية الأساس، وتلك عقلية "فرق تسد"، وهي التي أدت لإنتقال عدوى "الغاية تبرر الوسيلة" لتلك التكوينات الأيديولوجية، لتصدر خطابا يستحوذ دور الضحية واستعذاب فكرة الإضهاد ولو كذبا.
*5. بحسب تعبير د.محمد عابد الجابري – العقل السياسي العربي.
*6: راجع كتاب القسطاس المستقيم لأبي حامد الغزالي و الذي نادى فيه الوالي بقتل الباطنية لأنه بهم مس من الشيطان لا يزيله إلا السيف.
*7:The Marx – Engels Reader , Robert C.Tucker ,Norton
*8: وليست الحداثة.
*9: حنة أرندت: في العنف، ترجمة إبراهيم العريس، بيروت دار الساقي،1992
*10: Michele Foucault, Surveiller et Punir, Paris , Gallimard.
*11: حيث آيات " العقيدة " هي الآيات الأولى التي نزلت من القرآن الكريم تبشر الرسول (ص) بالرسالة وترد على طعون قريش وتعرض أسس العقيدة مؤكدة وحدانية الله لا شريك له، حيث ركز القرآن الكريم في هذه المرحلة على قضايا ثلاث: الوحي والتوحيد والآخرة بأسلوب بياني بليغ يعتمد التكرار والجمل القصار ونوعاً من السجع الخاص في الصور الفنية، ومشاهد حية تجعل منه أرفع درجات سحر البيان ( سيد قطب، التصوير الفني في القرآن الكريم )، والغنيمة هي الآيات التي انطلقت منها العقلية النبوية جاعلة من المختلف القيمي مصدر غنيمة كما جاء في وصف الطبري في كتابه الأمم والملوك وابن هشام في كتابه السيرة النبوية.
*12: قضايا في الفكر االمعاصر، د. محمد عابد الجابري، مركز دراسات الوحدة العربية.
*13: المصدر السابق.
*14: حتمية الحل الإسلامي: الحلول المستورة وكيف جنت على أمتنا، د. يوسف القرضاوي.
*15: راجع راشد الغنّوشي، الحريات العامة في الدولة الإسلامية، مركز دراسات الوحدة العربية.
*16: محمد عبده: الاعمال الكاملة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت.
*17: رفعت سيد أحمد: النبي المسلح – الرافضون، رياض الريس – بيروت.