Thursday 15 April 2010

في نقد النوسطالجيا : الأيديولوجيا

إن الذاكرة السياسية لا تعدو كونها وسيلة إستحضار التاريخ أو حتى استقراؤه واستعادته ، بل هي مرجعية تاريخية يرجع إليها عن الحاجة و القياس وليس المطابقة ، إنها عالم الجماعة الحاضر الغائب ، و الذي تتوزع من خلاله الأدوار ، ولكن مابين الحضور و الغياب يكون الخطاب الأيديولوجي ، وهنا وبعد شرح مختصر في المقال السابق عن تحليل الخطاب السياسي الإسلامي المعاصر ، اتناول هاهنا تفاعل الخطاب المعرفي / السلطوي أيديولوجيا.

فالخطاب الأيديولوجي السياسي الاسلامي – المعاصر ووجوده كعنصر معرفي / سلطوي معبر أيديولوجيا عن تلك المرجعية الغائبة الحاضرة تاريخيا ، نجد له وظيفتين إثنتين كأي خطاب معرفي / سلطوي أيديولوجي آخر على الساحة :

1.المنع من التذرر (Atomization): أي تفكك عرى الجماعة الواحدة لدى تفاعلها مع الآخر ، وهو مايجعل البعض يربط الفكر بالأيديولوجيا ، فيصبح الكاتب أو المفكر مائعا لالون له ولا طعم ولا رائحة مالم يكن خادما لأيديولوجيا ما بعينها و ليس فقط خادما للفكر كمطلق ، في تمثيل واضح لصور الانتهازية السياسية المتعلقة بسلطوية المعرفة وخطابها كأداة سلطة .

2. المنع من التفرد (Individualism) حتى داخل الجماعة الواحدة ، لذا عد الخطاب وسيلة سلطة وإن كان معرفيا ، لأنه يمنع الفردية المستقلة وما يمكن أن يعنيه ذلك من المجازفة بالرباط الجمعي أو المعرفة الجمعية و المرجعية الجمعية، في انعكاس ل(الموت مع الجماعة أرحم) مع أنه سيظل موتا.

إذن فالخطاب كأداة معرفية/سلطوية يعمل على تفعيل و تجذير الجمعية المعرفية و المنع من التذرر باسم حتى ولو كان باسم المرجعية ، وتلك إساءة كبيرة عندما ترتبط بدين سماوي ، وبلفظ آخر أدلجة الدين ليتحول حينها الدين من منهج :

- فردي : لبنته الأولى الفرد و الأخلاق الفردية والقيم الفردية فبدا ، مركزا على قيمة الفردية الإنسانية منطلقا للإنسانية ، لذا كان الرسول الكريم فردا إنسانا واحدا أرسل للبشرية جمعاء ، في كسر لنمطية القطيع.


- روحاني : يوفر الكثير من الإجابات الماوراء طبيعية و الأبوب الروحانية المتعلقة بالهاجش الإنساني الأكبر و الذي هو في منطلقه فردي أيضا وهو قيمة الحياة (مفرد) .


- حضاري : وتلك النقطة خلقت الفارق الواسع مابين الفتح و الاستعمار ، و أنتجت حضارات إنسانية أولا خاصة ثانيا ، إسلامية ثالثا يشهد لها التاريخ ، مستخدمة من كل ثقافة أدواتها الخاصة ، من دون تقييد .

في انكار تام على من يدعي بضحالة تاريخية معرفية أن أصل الحضارة العربية كان هو الإسلام ، مستقرأ الإسلام من عامل مساعد –رئيسي- لعامل وجودي أوحد.

إلى منهج:

- جمعي : لا يهتم بالفرد بقدر مايهتم بالجمع و قوة الجماعة واستحواذ الوطن –أي وطن- ملكا لقوة الأغلبية المادية ، فلا يقبل الاختلاف –أي اختلاف أيديولوجي وليس ديني فقط – ولا يقبل الفردية ، ليتحول حينها الدين تعبيرا جمعيا أيديولوجيا وليس فرديا روحانيا ، في تفسير واضح لتسرطن داء التكفير و الاخراج من الدين باسم الشرع و السماء ، و(معالم في الطريق) لايعدو إلا أن يكون إنعكاسا لخطاب معرفي سلطوي انتهج التكفير الجمعي لحماية الأيديولوجيا.


- مادي : لايهتم بالجانب الروحاني وهو النتاج الطبيعي للجانب الفردي ، بل يهتم بالمادية كمظهر يعبر عن الانتماء الجمعي في تنميط لصورة القطيع وهي صورة الأغلبية لا أكثر، فيصبح الدين مختصرا في مشاهده الفردية التي تحولت من عبادات لعادات جمعية ، اللحية و النقاب و الحجاب و التقصير وأشهر الجوامع ، لمشاهده الجمعية : الوصول للسلطة باسم الأغلبية وترادف الوطن للأيديولوجيا الاستقطابية.(1).


- سلطوي : لايهمه كيف سيصل للسلطة ، مادام سيصل ، مختصرا الحضارة في السلطة و الوصول إليها . مجندا لذلك الكثير من العبارات الرنانة روحانيا لبسط السلطة و التحكم في العقول ظاهرها وباطنها .

فعبارة كعبارة (الاسلام هو الحل) ، وبعيدا عن حساسيتها الغيبية لدى العامة البسيطة الثقافة و الفكر ، إلا أنها عبارة غير نزيهة سياسيا ، لأنها تغازل العصبيات والغرائز وتجعل أي حل سياسي غير ناجع مالم يكن حلا أيديولوجيا ، باستشارة السماء الصامتة ، وهي حيلة أيديولوجية لجعل السلطة حق ديني و ليس مدني ، كذلك الوطن بأيديولوجيات الاستقطاب ، وهي الحيل التي تعتمد عزل العقل المدني لصالح السماء امتدادا لمشهد رفع المصاحف على أسنة الرماح في أولى الحيل الأيديولوجية التي شهدها التاريخ الاسلامي باسم السماء لتحييد العقل.



الأثر التراكمي لذلك الخطاب المعرفي السلطوي الموجه للإسلام السياسي المعاصر على الخريطة الادراكية الجمعية :


كما أردفنا فان خطابا معرفيا سلطويا كهذا الخطاب ، لأجل الوصول لأهدافه : منع التذرر ، ومنع الفردية ، فإنه يستغل الكثير من القيم الانسانية المطلقة وحتى تلك الأيديولوجية النسبية للوصول لمآربه كأي خطاب معرفي سلطوي أيديولوجي آخر .

من ضمن مايراكمه هكذا خطاب ، هو ميكانيكية دوائر الاختلاف في الأمة العربية ، وهي تلك الدوائر التي تحوي الأنا والذات و ليس الأنا و الآخر ، حتى وإن كان ذلك الآخر هو في نفس الوطن والقضية ، متجاهلا ومستغلا في آن الأوضاع السياسية و الإجتماعية و الإقتصادية الراهنة قطريا و إقليميا - وإن كانت تلك الأوضاع لا تفرق بين الأنا و الآخر - ، مصدرا الكثير من الإزدواجيات المعرفية المطلقة باسم الأيديولوجيا ، ومستغلا عاطفة دينية قوية للخلاص محاطة بالكثير من مشاهد الظلم والإمبريالية و الاحتلال و الدكتاتورية و الفساد و التخلف و الاستهلاك .

من أبجديات ذلك الخطاب ، أبجديات تزرع – وإن كانت بريئة جزئيا- ، لها تأثيراتها و انعكاساتها من ولدى أرباب هكذا خطاب لايمكن أن يغفل عنها أي مراق ، وهي أبجديات اختزالية و اقصائية وليست استقصائية ، مثاله :


- اختصار قضية بحجم قضية الصراع العربي – الاسرائيلي في البعد الديني دون غيره ، هو اختصار في أقل أوصافه أرعن لما فيه من المصادرة على الكثير من العناصر الأخرى ، وهي عناصر فاعلة ومؤثرة لا يمكن اغفالها .

فلفظة مثل (الجهاد) وجعلها مرادفا للقضية الفلسطينية و الصراع بالمجمل، وإن كانت منطبقة - جزئيا- على مايحدث على أرض الواقع ، إلا أن الجزء دوما أصغر من الكل ، لذا كانت وستظل أرض الواقع أكبر من الأيديولوجيا . وهنا أتذكر كلمات المبدع الراحل شاعر السماء و الأسطورة محمود درويش حينما قال : الغريزة لا أيديولوجيا لها.

لأن تلك اللفظة التوصيفية في الخطاب ، تقتطع فعل المقاومة والإبقاء على الأرض و التاريخ و الجغرافيا والحضارة و التراث و الهوية وحتى حكايا جدي ، عن كامل السياق الإنساني ، وتختصرها انعكاسا لعنصر واحد من الهوية وهو الدين أو الميثولوجيا .

يتضح ذلك جليا في الكثير من الاختزالات الدنيئة و الغير أخلاقية المتواترة حديثا والتي تربط شرطيا بين التضحية و الدين ، في موافقة ضمنية مجحفة وخاوية على جعل الانتماء الديني فقط هو المحرك و الدافع للتضحية ، متى غاب هذا المحرك و الدافع لن تكون هناك تضحية ، مما يجعل الارتباط الوطني و الثقافي و التاريخي و الجغرافي و الحضاري و الهوياتي وحتى الانساني ليس ذو قيمة شرطية لتحقيق المطلوب منه وهو التضحية. إن ذلك التصور المرآوي المترادف لإزدواجية الدين / العطاء للوطن - أي عطاء- ، هو امتداد لإزدواجية الدين/ الوطن ، وما ينتج عن ذلك من اختزالات غير أخلاقية ومرفوضة لواجب التضحية وحقوق المواطنة ، في اهانة للوطن و الضحية و التضحية و الدين أيضا.

إن تلك المزايدة الضحلة الغير أخلاقية على دماء الشهداء وتضحياتهم وانتمائهم وهم من غير المتقاطعين في دائرة الاختلاف – أو الاستحواذ- الدين / الأيديولوجيا ، وذلك التجاهل للكثير من عناصر الهوية المكونة و الفاعلة في القضية ، و الناتجة عن كثير من دوائر التقاطع – لا الإختلاف- هو تطويق غير منتج وغير فعال براغماتيا على الساحة .



رواسب خطاب النوسطالجيا أيديولوجيا في التعامل مع المنتجات المعرفية و الثقافية و الفكرية :


متى كانت المعرفة إنعكاسا أيديولوجيا ، تحولت إلى سلطة ، وفقدت الكثير من محدداتها الموضوعية ، بخطاب معرفي م سلطوي م إنتقائي ، همه الأول و الأخير لدى تناوله أي منتج معرفي ثقافي أو فكري ، هو مايخدم أجندته الأيديولوجية فقط لخدمة أهداف الخطاب السالفة الذكر في بداية المقال بين أيديكم .

كان ذلك وعلى امتداد التاريخ في التناول و التجنيد الفعلي انتقائيا للمنتج الفكري أيا كان ، ولعل أشهر الأمثلة على ذلك ، كانالتجنيد النازي للفلسفة الوجودية النيتشوية ، و الفلسفة الطبيعية الداروينية ضمن أيديولوجيا الحزب النازي ورايخه الثالث ، مما ترك عميق الأثر في الخارطة الادراكية الانسانية جمعاء ، رابطا بين الإثنين وبشدة ، وان كان ربطا غير أمينا وغير مستوي معرفيا.(2)

وحتى الدين ، بمنطقه المأدلج/ السلطوي / المادي على مدى التاريخ الإنساني لم يسلم من الاتهام بهكذا إنتهازية ، ليس أقلها أولى المحاولات لترجمة القران الكريم ، ودراسة طوماس الإقويني له ، وكذلك تناول دانتي في كوميدياه الإلهية لشخص الرسول الكريم.

جميع هؤلاء حولوا المنتجات الأستقصائية المعرفية الفأدبية و الفنية و الثقافية أدوات إقصاء سلطوي ، تمثيلا لمبدأ : كل شيء في الحرب جائز.

وطبعا لم تغب تلك الاستراتيجية الغير أمينة عن عقول أرباب النوسطالجيا ، وكان من أبرز ضحايا تلك الإساءة الفكرية المفكر و المبدع الدكتور إدوارد سعيد ، ولكن ولأن عقلية ألمعية فذة وخلاقة كعقلية سعيد لن يخفى عليها وهي العالمة بخوافي التاريخ و ألاعيبه وحروب الأيديولوجيا وهكذا انتهازية سلطوية ، فقد أوضح في كتابه (الاستشراق) وهو ضحية الخطاب المعرفي/ السلطوي/ الأيديولوجي هاهنا ذلك قائلا :

آسف بأكبر قدر للزعم من جانب معادين ومتعاطفين على السواء أن ظاهرة الاستشراق هي مجاز مرسل أو رمز مصغر للغرب بأكمله المعادي للشعوب الغير أوروبية التي عانت من الاستعمار ، ويترتب على ذلك أن الشرق كاملا وأن معتقداته هي الحل الوحيد، أي أن نقد الإستشراق في هذه القراءة الخاطئة هو تأييد لأصولية ما ، في حين أنه لا طاقة لنا على تبين ما يكونه الشرق الحقيقي أو صحيح الإسلام ، و أن كلمات مثل (الشرق) و (الغرب) في الكتاب لا تناظر واقعا راسخا أو مستقرا يوجد كواقعة أو حقيقة طبيعية.

كانت دراسة الدكتور سعيد في كتابه الاستشراق هي من أكثر الدراسات غزارة و أكاديمية وإحاطة ، و التي تناولت ظاهرة تاريخية حضارية كظاهرة الاستشراق إبان الفترات الاستعمارية و الحقب الكلونيالية ، و أثرها المعرفي و الحضاري ، إلا أن ذلك الاختزال الأيديولوجي الغير أمين لمنتجات سعيد الفكرية لم تغب الاشارة إليه في ثلاثة من أعظم أعماله تاليا : (في تغطية الإسلام) و (الثقافة و الامبريالية) و (تعقيبات على الإستشراق)، معيدا التأكيد أن (الإسلام) كتجسيد لل(شرق) محمل بالمخاطر ، و أ، الغرب ضد الشرق و القول العكسي مضللان ، وذلك لتعاطفه مع نزعة تعددية الثقافات الإنتقادية للسلطة ، مجندة المعرفة ومعززة لها ، عوضا عن نزعة الكراهية للأجانب ، و النزعة الأيديولوجية ذات التوجه العنصري ، لذا كان سعيد على الدوام رافضا للصيغة المبتذلة التي تناولت (الإستشراق) ، و أعاد تصديرها أصحاب العقليات المؤامراتية و أثواب البراءة ووكالة السماء.

ومن المثير للسخرية و الهزل أن تلك العقليات التي اختزلت وتجنت على (الاستشراق) مجندة إياه لإثبات مبدأ صراع الحضارات مما يعطيهم المبرر الوجودي أيديولوجيا ، أن إدوارد سعيد بذاته نقد ورفض توجه هنتنجتون بصدام الحضارات مستعيضا عنه بصراع الجهالات ، إن نفس تلك العقليات التي ترفض منتج برنارد لويس الاستشراقي وهو الذي يصب في النهاية في صراع الحضارات ، قد رد سعيد عليه مرارا وتكرارا مؤكدا أن المنهج الاستشراقي الذي تناوله لدى دراسة ثقاة المستشرقين المحدثين كبرنارد لويس ، كان منهجا مصيبا بالكامل و أن (الاستشراق) هو نفي للافتراض القائل بأنه تقديم نقدي لهويتين متحاربتين ومتصارعيتن أيديولوجيا لما في ذلك من الغبن التاريخي و الحضاري و السطحية المعرفية.

بالنسبة لنا كان (الاستشراق) تسجيلا لحالة التوازي الملحوظ و القابل للفهم بين نشأة التخصص الاستشراقي وامتلاك امبراطوريات شرقية بواسطة بريطانيا وفرنسا في تمثيل امبريالي مادي لإزدواجية حضارية قوامها (الضعف / القوة ) وليس (الاسلام / الغرب) كما يصدر أصحاب النوسطالجيا التاريخية و السياسية لأيديولوجياتهم.

الهوامش :

1. راجع المقال الأول في نقد النوسطالجيا .

2. وردت الإشارة هاهنا لتجربة شخصية مع العديد من الأصدقاء و الأقارب الألمان لدى رؤيتهم لمجموعة نيتشه الكاملة بحوزتي ، والذي قوبل بالكثير من الاستهجان.

3. المراجع و المصادر:

- Culture and imperialism by Edward W. Said

- Orientalism By Edward W. Said

- Encyclopedia of Religions

- Covering Islam By Edward W. Said

- Orientalism Reconsidered By Edward W. Said