Saturday 26 September 2009

المعرفة و القوة : ما بين نيتشه وإدوارد سعيد



" كونوا قطاع طرق وفاتحين مالم تستطيعوا أن تكونوا مهيمنين أو مالكين ، أنتم رجال المعرفة ، قريبا ستمضي العهود التي كان يكفيكم فيها أن تعيشوا مختفين في عمق الغابة مثل الأيائل ! وأخيرا ستضع المعرفة يدها على كل ماحولها ، سترغب في أن تسود وتملك ، وستسودون معها وتملكون"

فريدريك نيتشه

إن فكرة (السيد و العبد) التي كنت المحور الأكثر بروزا وديناميكية في فلسفة نيتشه كانت فاتحة للكثير من الأفكار التي نراها مزدوجة المرجع لدى التعامل مع ثوابت الإنسانية كالأخلاق و الثقافة و المعرفة والحريات والتي تختلف فرديا وليس طبقيا كما لدى الفلسفة النيتشويه. فنيتشه الذي كان يرى في إنتشار المعرفة و الثقافة بين العامة في أوروبا إنما هو بداية إنهيار للحضارة الأوروبية ، لما في ذلك من إقتسام للحريات والواجبات و المراتب مما سيعمل على ترويض الإنسان وليس أنسنة الوحش بداخله .

فنيتشه صاحب مقولة (إن الرب قد مات ) الخالدة يرى في إقتسام المعرفة و الحريات بين البشر قضاءا على الجانب الحر الطبيعي في الإنسان وهو الجانب الفاعل فيه والأكثر إنتاجية ، وهي ذات الحجة التي عارض فيها نيتشه أفلاطون الذي طرد الفنانين من مملكته الفاضلة ، حيث أن نيتشه يرى وجوب عدم سيطرة العقل في الحياة الإنسانية بهذا الشكل الغير متناهي، لأنه بذلك سيطغى ويدمر الجزء الإنساني الطبيعي الخارج من رحم الطبيعة و المساق بالشهوات و النداءات الفسيولوجية وحب السطوة ، وهو الجزء الأغزر إنتاجا فنيا وإبداعيا .

فنيتشه الذي نادى بأفضلية الجنس الأبيض وتميزه ، وكون ذلك الجنس هو صاحب النتاج الثقافي الأنقى والأفضل والأكمل على إعتبار أن الثقافة بكل ميكانيكياتها ترتبط إرتباطا وثيقا بالخواص الجسدية والفسيولوجية لأصحابها فالجنس الأوروبي والآري تحديدا ومثال ذلك الأغريق هو المثال الأكمل والأجمل فسيولوجيا لدى لذا فهو الاقدر على إنتاج حضارة وثقافة عظيمة على غرار الإغريقية مما يضع على عاتقه – من وجهة نظر نيتشه – فرض ثقافته الأقوى والأفضل والانقح وهي ههنا ثقافة السيد على ثقافة العبد وهو الآخر الملون صاحب الثقافة الأدنى ‘ لذا فالمعرفة لدى نيتشه لاتعدو كونها جزءا من العملية السياسية لفرض السيطرة المعرفية وإدماج الآخر الأدنى (العبد) في عجلة التطور والتنقيح التي يقودها الأوروبي ذو السيادة.


أما المفكر إدوارد سعيد والذي تناول في العديد من كتبه وحياته الأكاديمية وأبحاثه مناقشة إحدى أهم العمليات المعرفية في التاريخ وأبعادها السياسية ألا وهي الإستشراق والذي تنأى عن كونها عملية صافية النوايا لتقديم الشرق للغرب وتكاد أن تكون جزءا من العملية السياسية وسلاحا إمبرياليا يوظف المعرفة ضمن سياق سياسي ليس إلا ، فالإستشراق لدى سعيد هو إلقاء الضوء على الشرق بغية تطويعه إمبرياليا وثقافيا للغرب ، فالكثير من صور المعرفة الأدبية بالشرق قدمته ضمن إطار مايريد أن يراه الغرب لا كما هو عليه ، مثال ذلك رواية (قلب الظلام) للكاتب جوزيف كونراد والتي إستحوذت من دراسات سعيد النقدية والسياسية نصيب الأسد ، والتي كانت مثالا واضحا – لدى سعيد – لتطويع المعرفة كأداة سياسية ، وما نتج عن ذلك من حركات أدبية وطنية مضادة وصلت لوصف تلك النوعيات من المعرفة الموجهة سياسيا ، بأنها إنتاجات لا يجب أن يقرؤها الأفارقة والعالم لأبعادها الإمبريالية وليس لأبعادها الفنية وغناها المعرفي الذي يفترض أن يكون بريئا وبعيدا عن السياسة وخادما للفكر فقط.

لذا فالمعرفة لدى إدوارد سعيد في أطروحاته لاعلاقة لها بكينونة الفكرة أيا كانت بقدرما لها علاقة بقيمة توظيف الفكرة سياسيا و إمبرياليا ، فالرابط بين المعرفة و القوة من وجهة نظر إدوارد سعيد عملية ديناميكية وصلت حد إنتاج بعض المؤسسات العلمية والمفترض بها أن تكون مؤسسة بحث موضوعي جاد وحيادي ولكنها مؤسسات وظيفتها إعمال المعرفة لبسط القوة ، مثال ذلك كان (التجمع الملكي الجيوغرافي) في لندن والذي جاء على لسان مديره عالم طبقات الأرض والجيوغرافي رودني مورشيسون : (مهمة التجمع ليست إكتشاف أفريقيا بقدر ما هي مهمة عسكرية).


يقول إدوارد سعيد : ( إن وجود علاقة وثيقة مابين السياسة والإستشراق ، أو لنضع الأمر بشكل اكثر إحتراسا إن الإحتمال الكبير لإستخدام الأفكار المستنبطة حول الشرق من الإستشراق لأغراض سياسية هو حقيقة هامة لكنها حقيقة حساسة جدا فهي تثير أسئلة حول النزوع الطبيعي للبراءة أوالذنب ، حول النقاء من التحيز في البحث العلمي أو تواطؤ التجمعات التي تمارس الضغوط في ميادين مثل دراسات السزد ودراسات المرأة ، وهي بالضرورة تستفز شعورا بالقلق في ضمير المرء حول التعميمات الثقافية والعرقية والتاريخية وحول إستخداماتها وجدواها ودرجة الموضوعية فيها ونواياها الأساسية ).


بعد هذا الإستعراض السريع للإزدواجية العلاقة ما بين المعرفة و القوة ، أو الثقافة و السياسة من وجهة نظر الفيلسوف الألماني نيتشه و المفكر إدوارد سعيد ، إلا أن كلا من الأطروحتين في نظرنا قد تجاهلت عامل الزمن ، وهو أحد العوامل الهامة بجانب الكثير أيضا منه الإقتصاد والحريات والأديان والتعليم والمؤسسات المدنية مما يصل بنا لمنظومة العولمة والتي لن تكفيها ساحتنا للعرض ههنا إلا تباعا في مقالات مقبلة .

وبالعودة للزمن وتحديدا زمن إنتقال المعرفة وإرتباط ذلك الزمن بالعامل السياسي وإلتقاء الثقافات وليس صراعها ، أجد نفسي أعود لذكر أحد أهم النظريات في عصرنا الحديث وهي نظرية المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي التي ذكرها في نص نشر عام 1973 موضحا مسار الإنسانية في ثلاثة مراحل، و التي أوردها أنا هنا بكثير من الإيجاز:

1.
في المرحلة الأولى (ماقبل التاريخ) كانت الإتصالات بطيئة للغاية و تطورات المعرفة تسير بشكل أبطأ ، حيث كان كل جديد أمامه مايكفي من الوقت لينتشر حول العالم، قبل أن يأتي جديد آخر ، لذا فقد كانت المجتمعات الإنسانية تملك الدرجة ذاتها من التطور، و الكثير من الخصائص المشتركة.

2.
أثناء الفترة الثانية كان تطور المعارف أسرع من إنتشارها لبطء وسائل الإتصالات ، فأصبحت المجتمعات أكثر فأكثر تمايزا في كل المجالات وقد دامت تلك الفترة من السنين آلافا فيما نسميه بالتاريخ

3.
الفترة الثالثة تتقدم أثناءها المعارف و العلوم بصورة متسارعة ، وإنتشارها من هنا إلى هناك يسير بشكل أسرع ، لدرجة أن المجتمعات الإنسانية ستجد نفسها أقل فأقل تمايزا ، ولديها من نقاط الإلتقاء و التشابه الكثير و الكثير.


أما تعريف "الثقافة" كما وردت في كما ورد في كتاب عالم الأجناس البريطاني السير إدوارد بيرنت تايلور (الثقافة البدائية) والذي نراه منطقيا جدا ومبسطا :

الثقافة هي كل مركب يشمل المعرفة والعقيدة والأخلاق والقانون و العادات وأية إمكانات أو ممارسات يكتسبها الإنسان كعضو في المجتمع ).


وإنطلاقا من هذا التعريف وبإعمال نظرية أرنولد توينبي في تواصل الثقافات و المجتمعا في زمن الفضاء المفتوح والعالم – القرية ، يمكننا القول أن عناصرنا وموروثاتنا الثقافية و المعرفية ستكون بسبب المماهاة مابين الحضارات عرضة للنقد والتفكير مرارا وتكرارا لتجد لها مكانا على قائمة البقاء ، وبالذات بعد أن إنفصل التواصل الإنساني عن الآلة السياسية والنظامية (وليست الإقتصادية بعد) بشكل كبير فاصبح لأغلبنا نفاذة يحادث العالم منها وينشر فكره وآراءه .

إن حاجتنا لتنقيح موروثاتنا الثقافية والمعرفية وكسر قاعدة الأصاله لصالح التحديث تحت قاعدة النقد و النقد الذاتي وقبول الإختلاف هو ضرورة بقاء قاعدتها الفكرة الأصلح والأكثر تماشيا مع الفكر الإنساني وتفاصيل الراهن والتاريخ.

إن تحرر المعرفة بشكل كبير عن ركب السياسة ، ولو بشكل غير مكتمل يعطينا فرصة سانحة وقوية للتفاعل مع الحضارات وليس الصراع ، إلا أن ذلك لا يعني عدم وجود حضارات يتهددها الفناء وليس الصراع إنها الحضارات التي عزفت عن التواصل مع الآخر وإلتصقت بالتأصيل حد تجاهلها لنداءات التحديث والتواصل مع الذات والآخر ضمن مرجعية العقل و الصلاحية ، كما أيضا هي الحضارة أو الثقافة التي أخذت من الآخر كل شيء في إمتصاص بعد عن النقد والتنقية على أساس تفردها عن ذلك الآخر.

وللوصول لتلك المرحلة من التفاعل الحضاري والثقافي و المعرفي المنتج يجب :

  1. التعامل مع المعرفة بحكم أنها تسيرحسب قاعدة النشأة والتطور بالتراكم ، لذا فهي تنشأ وتتطور بالتعامل مع المنظومات والأفكار المختلفة بدون تجاهل هويتها المميزة لها.
  2. إن المعرفة و الثقافة تنمو بالحوار والتبادل ، وقاعدة أي حوار النقد والمساءلة والذين ينتجان من ثقافة الإختلاف وإحتواء الآخر.
  3. إن الفكر و الثقافة ليسا بنية معرفية مغلقة تتناسل فيما بينها كالمستعمرة المغلقة ، بل هي تعبير عن المحيط التاريخي و الواقعي ، بكل مافيه من مترادفات ومتضادات ، لذا فالثقافة و الفكر يكتسبان قيمتهما الحضارية من قدرتهما على تمثيل اللحظة التاريخية و التعبير عنها تلك اللحظة التي تحتوينا نحن و الآخر ، ومن ثم تغييرها للأفضل.

وللحديث بقية....

Sources:

1.BEYOND GOOD AND EVIL by FRIDRICH NIETZSCHE.

2.THE GENEALOGY OF MORALS by FRIDRICH NIETZSCHE.

3.ORIENTALISM by EDWARD W. SAID

4.CULTURE AND IMPERIALISM by EDWARD W.SAID

5.

الأنا والآخر مجموعة مقالات بإشراف د. محمد عابد الجابري.

Saturday 19 September 2009

Between Two Cultures


The resulting images – the caricatures of the inscrutable Orients , the mysterious east , the evil and terror of the Arab world- why they were necessarily created?

I think ignorance played a big role. There was an hostility that prevented what I would call the normal exchange between cultures. One of the things that is quite amazing is that there is a rather stubborn continuity between European views of Islam in the twelfth century and European views of Islam in the eighteenth, nineteenth and twentieth centuries: they simply don’t change. First of all, I argue there's no such thing as Islam, pure and simple; there are many Muslims and different kinds of interpretations of Islam-that was the subject of another book, called COVERING ISLAM. There's tendency always to homogenize and to turn the other into something monolithic, partly out of not only ignorance but also fear because the Arab armies came into Europe and were defeated in the fourteenth and fifteenth centuries. So there is that long standing sense. Then of course they are part of the monotheistic trilogy. Islam is the latest of the two other great monotheistic religions, Judaism and Christianity, and there is a sense in which the closeness of Europe of the Arab and Islamic world is a source of great unease. Nothing is easiest for people to deal with something that is different than the portray it as dangerous and threatening and to reduce it ultimately to a few clichés.
That’s what's really appalling, that the whole history of this creation of the orient involves a continuous diminishment, so that now, for example, in the western press, the things you read about Islam and the Arab world are really horrendously simplified and completely belie the two or three hundred years of close contact between Europeans and to some degree Americans on the one hand and the Arab and Muslims on the other. It's as if they have always been standing on opposite side of some immense ditch and all they do is throw rotten food at each other.

And that's not changing?

No, I think it's actually getting worse*. At times of crisis, such as during the Gulf War and also on a continual daily basis in the media in America, the clichés are getting less interesting and less forgiving and less "true". The correspond les to any conceivable human reality. Islam in the west is the last acceptable racial and cultural stereotype that you can fling about without any sense of bad manners or trepidation.

Why do you think that is?

There are many reasons for it but I think the main one is that there's no deterrent. No western, or let's say North American person, knows very much about Islamic world*. It's out there, it's mainly desert, a lot of sheep, camels, people with knives between their teeth, terrorists, etcetera. The cultural heritage, the novels and other books that appear in English, are never paid attention to. There's nothing to prevent people here –in the united states- from saying what they wish. On the other hand the Arab and Muslims have not really understood the politics of cultural representations in the West. Most of the regimes in the Arab world are basically dictatorial, very unpopular, minority regimes of one sort or another; there are not interested in saying anything about themselves because it would expose them to justified criticism. The myths about America and the west in the Arab world are equally clichéd: All Americans are oversexed and they eat too much. The result where there should be humans presence there is vacuum, and where there should be exchange and dialogue and communication, there is a debased kind of non-exchange.

* * * *

(from:
POWER, POLITICS AND CULTURE: Interviews with EDWARD W.SAID)

Monday 7 September 2009

(INGLOURIOUS BASTERDS)والخطأ الطباعي مقصود



إن المراقب للساحة السينمائية العالمية ، لا يمكنه تجاهل ظاهرة تبدو واضحة على سطح الحركة السينمائية العالمية وهي الأفلام التي تدور في فلك : هتلر – النازية – المحرقة – الحرب العالمية وطبعا اليهود ، ولا يمكننا إلا أن نربط العامل الزمني لظهور هذه الأفلام بهذا الزخم وإعتلاء إدارة جديدة قمة العمل السياسي في المكتب البيضاوي ، تلك الإدارة التي إتخذت لنفسها بعدا صوتيا جديدا في التعامل مع الآخر العربي – الإسلامي.
وسبب إختياري لوصف البعد الأوبامي الجديد في الإدارة بالبعد الصوتي ، كونه لم يخرج بعد من رحم الصوت ليتجسد على أرض الواقع ، حتى بعد سكوت التهليل والتصفيق وفض المائدة الرمضانية في البيت الأبيض ، ليظهر لنا سيد الأفعال لا الأقوال السيد نتن ياهو ، ليفتح الباب أمام عملية الإستيطان في القدس ضاربا بعرض الحائط أصواتنا ، المشغولة بالإحتفال بمسرحية الإنتخابات الفلسطينية الكرتونية التي لم تتعد مسرحية عرائس بأيد إسرائيلية وأختام عبرية.
هذا من ناحية ، أما الأخ الفلسطيني الآخر الحمساوي والذي لم يفق بعد من حالة الغباء السياسي المزمن وعصور الجاهلية الأولى فلايزال مشغولا بالحجاب ليفرضه على المحاميات وطالبات المدارس وكأنه بذلك سيحل مشكلة الفقر و البطالة والحصار بقميص عثمان الذي إرتدته حماس لا ينزعنه غير إله إحتجب في السماء السابعة.

وبالعودة لحديثي عن السينما ، والذي حركه فيلم
(INGLOURIOUS BASTERDS)
، والذي يدور في نفس الفضاءات السالفة الذكر ولكن بإتجاه عكسي يميزه بشكل أو بآخر ، ففي أحد المشاهد نرى مجموعة من الناس يساقون كرها إلا أحد المباني وتغلق عليهم الأبواب ومن ثم تضرم النيران في المكان لتلتهمهم ، ليصور لنا المخرج العبقري كونتين تارنتينو تفاصيل التمسك الإنساني بالحياة والصراخ والطرق العنيف على الأبواب ، ولكن المفاجأة تكمن في ان هؤلاء الضحايا نازيون ، وليس كما ظننت وظن الجميع يهودا.

وقد علق تارنتينو على الفيلم قائلا :
يعجبني ان قوة السينما هي التي تتصدى للنازيين ، ليس بالشكل المجازي إنما بشكل واقعي .

ومن ثم تصف مجلة النيوزويك الأمريكية الفيلم : في فيلم كونتن تارينتينو عن الحرب العالمية الثانية الطيبون هم الذين يتصرفون كالمجرمين ...يالها من فكرة رهيبة.

وطبعا إستوقفتني هذه العبارة والتي وكعادة الإعلام الأمريكي ، لم تخرج عن كونها حكما مسبقا ظالما وغير موضوعي بل يعاني في نصه حالة من الإزدواجية فكلمة (الطيبون) وتقصد اليهود تعتبر حكما يقضي بثبات تلك الطيبة في حين أنهم (يتصرفون كالمجرمين) ، لتصبح الفكرة حينها (رهيبة) ، لأتسائل ههنا : أي جزء هو الرهيب تحديدا وصف اليهود إجمالا (بالطيبين) أم (كونهم يتصرفون كالمجرمين ) على أرض الواقع؟

لأجد الإجابة المنطقية تاريخيا وواقعيا ومنطقيا أن وصف اليهود إجمالا بالطيبة يكمن وصفه مجاملة ب (الرهيب).

من المؤلم أن يصل حد تزوير التاريخ إلى هذا الحد من الدعر ، ففي حين أنني لا أنكر المحرقة ولا أنكر الحق اليهودي الأدبي في التباكي ولعب دور الضحية ، إلا أنني أستنكر الإحتكار الإسرائيلي لهذا الدور دونا عن الغجر مثلا أو الألمان الذين ذاقوا نيران الأتون النازي بدورهم.
ذلك الإحتكار الذي حول المجني عليه جانيا ، وجعل إنتقامه إستحقاقا الشيء الغير مقبول عقليا ومنطقيا وتاريخيا وحتى إنسانيا لأن الجريمة لا تقوم بجريمة مساوية لها في المقدار ومختلفة معها في الإتجاه و الزمان و المكان وحتى الضحية ، لتقهر شعبا آخر ووطنا آخر لأن شعبا ثالثا في وطن ثالث وتاريخ ثالث قد أجرم في حقهم.
فالإستحواذ الإسرائيلي على دور الضحية ، قتل لديهم الحس الإنساني بمأساة الشعوب الأخرى ومعاناتهم وجعل من الستة ملايين يهودي - إن صح الرقم - ثمنا لابأس به لوطن ليس لهم .
كما أن ذلك الإحتكار قد ربى لدى الإسرائيلي حسا زائفا بمراقبة التاريخ فمن يجرؤ على البحث و الإنتقاد والتساؤل عن صحة الهولوكوست إنما هو عدو للسامية كما حدث مع المؤرخ الإنجليزي ديفيد إيرفينغ.
وتطور ذلك الحس ليصبح رقيبا على الإنسانية وحب الحياة ، لنرى أن الإسرائيلين يعتبرون من خروج العرب ذريعة للإدعاء بغياب حس الإنتماء للوطن ، متجاهلين برعونة الجهل والخيانة العربية عوامل من أهمها توحش عصابات اليهود وعودتهم لعصور آكلة لحوم البشر والنكبة العربية والبندقية الإنجليزية والذين جميعا وقفوا حراسا على الحياة- الوطن.

وهنا يحضرني ، خطاب السيد باراك أوباما في القاهرة والذي شهدت حينه وسائل الإعلام الإسرائيلية على الإنترنت حالة تصادم بين اليهود-الإسرائيلين من جهة والأمريكيين الذين وعوا أخيرا لضرورة السؤال القائل ماسر هذا الدعم الأمريكي المطلق للكيان الإسرائيلي؟
ذلك الصدام الذي جعل اليهود وكعادتهم يلجؤون لبطاقة الإتهام الجوفاء الدائمة (معاداة السامية) ، مصورين السيد أوباما بكوفية ياسر عرفات.

قد يستغرب البعض حينما أقول أنني لا أخفي سعادتي بحالة التصادم تلك ، وجهود الجوقة الإعلامية والسينمائية اليهودية لبث ترانيم سلامهم الدامي في المحافل الدولية ، لأن ذلك التصادم سيدفع الكثيرين للتساؤل عن الحقيقة والبحث عنها في فضاء المعلومة والإنترنت و التاريخ والواقع ليجدوا أن فلسطين هي أرض لشعب أصبحت فاتورة الإنسانية لشعب لم يكونوا بلا أرض.

ولكنني أيضا أرى من الضروري ذكر متلازمة العار العربي ، حينما أتذكر مخرجنا العبقري رحمه الله العقاد الذي طالته يد الإرهاب ، حينما إقترح على صاحب شركة ال 100 مطرب ومطربة الأمير الوليد بن طلال تمويل أحد الأفلام التي تتحدث عن بطلنا صلاح الدين الأيوبي والقدس تحت الحكم الإسلامي بمشاركة البعض من رجال الأعمال العرب والأجانب ليرد صاحب السمو رافضا بحجة أنه مشروع غير مربح .
لأجد نفسي لا إراديا أبحث لسمو الأمير عن حجة تتناسب والعقلية العربية الإستهلاكية لأجد :
مقياس النجاح لدى البعض هو هيفاء وهبي.
ونكون فعلا بمعية أمثاله قد أصبحنا:
INGLOURIOUS BASTARDS (وللتصحيح المطبعي ههنا معنى)
وهنا تحضرني عبارة على لسان بطل فيلم تارنتينو هانز لاندا:
يمكن للوقائع أن تكون مضللة.
__________________________________________________________________
على هامش المقال أعلاه لا أملك سوى أن أشكر وأبدي إعجابي برموز السينما الأمريكية والعالمية كين لوتش وجين فوندا ودفيد بايرن وجون جريسون ، الذين وقعوا عريضة إعتراض ومقاطعة لمهرجان تورنتو الدولي للأفلام والذي خصص للحديث عن إسرائيل – تل أبيب ، وأصدر نعيي للعرب وفنانيهم الذين شاركوا بخجل بفلمين إثنين عن فلسطين ، فحينما يسألني أحد أين هي الحركة الفنية العربية عن منابر العالم وعرض القضية ، أجيب أنهم إعتزلوا العالم وقاطعوه لعل الله يبدل الزمن بآخر أو ان يقاتل عنهم ، ولحين حدوث ذلك سيتفرغون لهيفاء وهبي تحت لافتة المقاطعة.
___________________________________________________________________
بعض الافلام عن الحرب العالمية وهتلر و المحرقة والنازية:
- THE PRODUCERS BY MILL BROX 1968
- LIFE ID BEAUTIFUL ROBERTA PIENNINII 1997
INGLOURIOUS BASTERDS BY QUENTIN TARNTINO 2009 -
DEFIANCE 2008 –
- VALKYRIE 2008.

Tuesday 1 September 2009

الفن


الفن في ابسط تعاريفه هو لفظ يجمع جميع المحاولات و الأنشطة الإنسانية لمحاكاة الواقع و الحياة.

أختلف مع أفلاطون الذي وضع الفن في أسفل مراتب الإنتاج الفكري ، حينما إعتبره مظهرا لمظهر من مظاهر الحقيقة ، أي أنه لاينتج حياة بل يعيد إنتاج أحد مظاهر الحياة ، ومن هنا كان إعتبار أفلاطون للفن أنه لايمثل شيئا على مستوى الحقيقة ، وبعد مناقشة الفن في الكتاب العاشر من مملكته الفاضلة توصل لطرد الشعراء و الرسامين منها.
الكثيرون تحت حجج حماية المقاييس الإجتماعية والأخلاقية والدينية ، يبررون الإنتقاص من قيمة الفن وضرورته على إمتداد التاريخ بل ويصل بهم ذلك حد المطالبة بمنعه أو منع البعض منه او رقابته، والتاريخ يشهد من الدعوات الظلامية تلك الكثير ، والتي تعاني من قصور تعريفي بالقيمة الحياتية والفكرية والتاريخية للفنون ، ونظرة قاصرة لتأثير إفتقار مجتمعاتنا للثقافة الجمالية والفنية والوعي الإنساني البسيط بقيمة مظاهر الحياة والتي تضاهي الحياة ذاتها قيمة.

إن تعاطي أفلاطون و من ورائه الكثير من الجهات والأفكار الرقابية مع الفن ، هو تعاطي مادي بعيدا عن الحاجة الإنسانية لجمالية التخيل وسمو الخيال الوصفي وإستخدام عضو مختلف عن باقي الأعضاء الإنسانية الخمسة ، وتأثير ذلك على الحقيقة وتعاطينا معها ومع إنسانيتنا .
فكما قال الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط (الجميل هو مايروقنا ، والسامي هو مايثيرنا )، فالعواطف موجودة في الذوات وليست في الحقيقة أو الحياة الصلبة بل وتختلف بإختلاف الذوات، وجمالية الفن تبقى مشروطة بالذوات فتأثير الفن يختلف عن الحياة ومظهرها ليس كذبا إنما تخيلا في فضاء مفتوح ، للفرد فيه حرية الترجمة والتعاطي مع الخيال . لذا فمهاجمة الفنون –إن صح التعبير- لا تعدو كونها إنتقاصا من قدرة الخيال الإنساني وحريته وسموه وإرجاعها لحواس خمس بتسلط خيال وعقل آخر .

لذا وجب وضع الفن كحالة ندية أمام جمالية المظهر الحياتي – الحقيقي وضرورته ، ولفظ (جمالية) ههنا أكبر من إستيعابنا القاصر في الغالب له ، فحتى للألم جمالية تستشعر ، تستحق أن يصورها الفن أيا كانت .
فمثلا الحقيقة والواقع يقولان : مجتمعاتنا العربية تعاني حالة من الفقر و الفساد السياسي و الإجتماعي وما إلى ذلك .
هنا يظهر دور الفن ليرصد ويلقي الضوء على مظاهر تلك الحقيقة ويسجلها مهما كانت فاسية وصادمة فهي موجودة وستظل موجودة وتعامينا عنها لن يخفيها.
فالفن يكسر القواعد والتابوو ويتعدى خطوطنا الحمراء ويضخ دماءا جديدة في شراييننا ، ليشعرنا أننا لا نزال نستطيع ممارسة الفعل الأبسط في الحياة وهو أن نحيا بكل مظاهر الحياة.
ومن ثم نستطيع التعامل مع الحياة.

* * *
كان لمحمود درويش يوما سؤال يقول :
( هل لشعب يملك شعراء كبار أن يسيطر على شعب لا شعراء له؟؟ وهل لشعب أن يكون قويا بدون أن يكتب شعرا؟؟؟)
وذلك تعقيبا على شعر هوميروس الشاعر الإغريقي الذي روى ملحمة طروادة من طرف الحصان.

فلما الشعر؟ ولما كانت له كل هذه السطوة؟
إن الشعر هو فن اللغة ، واللغة هي أداة التعبير الأولى التي إخترعتها الإنسانية لتعبر عن نفسها وتتواصل ، اللغة هي الميراث الأكبر لأي حضارة كانت ، وهي أيضا مفاتيح مظاهرها الحياتية ومن ثم الفنية ، فمن الشعر خرج الأدب والرسم والنحت والمعمار والغناء و الرقص وحتى الحروب ، إذن فنحن لن نفهم فنوننا إلا بقدر ماتتشكل هي كائنات لغوية - شعرية في خيالنا ومن ثم فنا ، إذن فكل الفنون تعتبر مشروعا شعريا ، وكما أن الشعر لغة / فالفن لغة.

الفن يؤسس للتاريخ ، ولن يكون للبشر تاريخ إلا بالقدر الذي تتكشف فيه الحقيقة ومظاهرها أمامهم ، وبإستقرارها ومظاهرها في جميع فنونهم.
لذا برزت ضرورة الفن كحاجة لابد منها تاريخيا وإجتماعيا وثقافيا وحضاريا وحتى فرديا.

* * *
وبالعودة لسؤال محمود درويش نرى ان التاريخ يظل ناقصا في كامل حضوره ، لأن الشاعر الطروادي لم يحضر بعد ليكمل تاريخه من الجانب الآخر للحصان.

فلنبحث عن فنوننا ليضيء بنا تاريخنا ولكي لا نقف أمام الحكاية يوما غير مكتملين ننتظر شاعرنا الذي قتلناه.



وللحديث بقية