Sunday 1 January 2012

الله محض شعر : تأملات في الشعر

الله محض شعر

إذا كانت اللغة معيار حضارة الأمم، ومخزونها الإدراكي والتفاعلي اللذان يعطيانها فضاءها الحضاري المؤثر والفاعل تاريخياً، فالحيز الشعري هو الفن اللفظي/ اللغوي الأكثر تماساً وتماهياً مع سيرورة تلك الأمم وأفرادها. ومهما خيّل إلينا أننا نحيا عصر «النثر»، و«الرواية النثرية»، فيجب علينا أن نعي أن الانفصال بين تلكم الأنواع ومحركاتها الشعرية الأولى (الأصل/الجذر)، بما تمثله من اعتراف وتحريض وسحر وعبادة وهيام، مستحيل التمام، وإن كان ذلك لا ينفي تأثير مختلف العوامل السوسيومعرفية على سيرورة الشعر، كالأنوثة والحداثة والقصيدة وغيرها، حيث يمكننا تتبع تلك التأثيرات في الكثير من التمفصلات التاريخية بين مختلف صنوف الشعر (أولاً)، ومع علاقة الشعر بالصنوف والفنون الأخرى (ثانياً).

الشعر سمة الأصالة في كل فن معبر عن الإنسان يعتمد الكلمة، فإن كانت كل الفنون تطمح إلى الحالة الموسيقية -حسب فالتر باتر– فإن ذلك الجنوح لا يتم إلا عن طريق الشحنة الشعرية/الموسيقية الكامنة في تلك الفنون، فصناعة الرواية مثلاً سميت: POETICS OF THE NOVEL، فإن عزلتَ عن الفنون جانبها الشعري/الموسيقي سقط عنها إبداعها، وتماهيها مع التوق الإنساني للحقيقة.
«كل الفنون صور للحقيقة، إلا الموسيقى، فهي الحقيقة نفسها»- شوبنهاور.
فما أن تعلّم الإنسان «الأسماء كلها»، حتى كاد الشعر أن يكون ألوى تمظهراته الصوتية/ الموسيقية المنطوقة التعبيرية عن ذاته، وعن إدراكه للطبيعة للمحيط (والمسافة بين الذات والموضوع)، فكان على منطوق القول/الصوت أن ينفصل عن الحاجة الانسانية –وإن أثّرت في التكوين اللغوي- ليصبح الشعر حينها أشبه بمس من قوى سرية غامضة تحرك الإنسان، وتمنحه القيمة -فيما هو خلف البحر- من معانٍ جديدة للحقيقة، وتطاير الرؤى خلف السماء الأخيرة، مستخدمة من جماليات وشائجية تربط الإنسان بجذوره في الماء والشمس والقمر والتراب، فكانت الموسيقى والشعر، ضوء وظل.





 وكانت الأسطورة الشعرية ظلّها قوام تفكير الإنسان وقياسه، فهي التي «توحي إليه بدوام الصلة بينه وبين القوى المحيطة به، تلك الآلهة التي راح يعطيها أسماء وصفات مستقاة من تجربته وأحلامه وشعره.
لذا فإن كانت «الصورة الشعرية بروزاً متوثباً ومفاجئاً على سطح النفس»، فتراكُم الصور الشعرية يعطيها فضاءها السردي تاريخياً، لذا كانت على امتداد الحضارات كلها مدونات الإنسان الملحمية والبطولية والتأملية، وتراثه القصصي نظماً شعرياً بدايةً من جلجامش ومآسي إيسخيلس وسوفكليس ويوريبيدس والإلياذة والأوديسا والكوميديا الإلهية وغيرها الكثير مما لا يتسع له المتن هاهنا. وذلك لما للشكل الشعري وتورطه الفني المتنوع من تجاوز وتعالٍ عن مسرود الفردي اليومي المجرد، إنما لشموليته وتسامي معانيه وتجاوزها حيز النسبي، فهو يمس الهوية الجامعة للوطن والأمة والإنسان، بالشعر يتخطى الإنسان نفسه... لمصاف الآلهة.

 «شعب بلا شعر... شعب مهزوم»- محمود درويش.
يسوقنا ذلك للتساؤل، ها تندفع البادئة الشعرية، أو الصورة الشعرية لاندفاع داخلي؟ أهي صدىً للماضي؟
بحسب باشلار، فالصورة الشعرية لا تخضع لاندفاع داخلي، وليست صدى للماضي، هي وهج الصور المترددة للماضي البعيد الأصداء، ولكن من هنا يصعب -بحسب باشلار- معرفة على أي عمق سوف يتم إرجاع هذه الأصداء الماضوية أو تلاشيها أو ارتباطها بتفاصيل الراهن. ولذا فهو يرى أن الصورة الشعرية لها فرادتها وطزاجتها المعبرة عنها، مما يعطيها هوية ودينامية خاصة بها، وأنطولوجيا شعرية آنية ومباشرة لا يمكن تمام الإمساك بكثافتها إلا لحظياً، ونعرِّفها بميتافيزيقيا الخيال الشعري.
إن البادئة الشعرية والصورة الناتجة عنها، تضعنا بعيداً عن شرارتها الأم/الجذر أمام العديد من الأسئلة، فكيف تستطيع الصورة الشعرية خلق زمنية منفصلة وخاصة وجامعة في آن، تبدو على قصرها وكأنها تكثيف للنفس الإنسانية؟ كيف لها أن تحدث أثرها في عقل وقلب ووعي المتلقي، قافزة فوق حواجز الحس «السليم»  و«خصوصيات» المعرفة، ومدارس الفكر المختلفة والمنظمة له، والقانعة برساختها أمام أي شيء إلا الشعر؟

 وإن قيل أن الإحالة إلى الذات الشعرية كفيلة بمعاونتنا على فهم آلية تكوين الصورة الشعرية (البادئة الشعرية) وتشريحها، كالتحليل النفسي مثلاً، إلا أنها تغفل طبيعة الصورة الشعرية باعتبارها حالة حوار «تنويعاتية» وليست  «تكوينية»، مع الذات والمحيط.
كتب بيير - جان جف قائلاً: «الشعر روح تتفتح شكلاً»، هي هنا القوة العليا والكرامة الإنسانية وفضاء الوجود الإنساني الأسمى، وكأن القصيدة الشعرية نبض جديد في الجسد الإنساني، لتذكره على الدوام أنه في سعي للاكتمال مع الروح الأعلى: الله.


______________________________________________

رابط المقال على صفحات "فلسطين الشباب":
http://www.filistinashabab.com/index.php?option=com_k2&view=item&layout=item&Itemid28&id=934

No comments: