Thursday 13 August 2009

الفعل و رد الفعل (1): الحرية و الرقابة


" قانون الفعل و رد الفعل لا ينطبق على المواهب الفكرية ، لأن الفكر يجب أن ينأى بنفسه عن أن يكون مجرد "رد" لفعل، بل الرد هو من خصائص القوى اللا فكرية كالمؤسسات العسكرية"
إرتأيت أن أبدأ مقالي ههنا بالعبارة السابقة ، و التي أرى أنها خير وصف على ما سيرد تباعا في ما يختص بالعملية الفكرية في بلادنا ، بداية من تعاريفنا الموتورة و المجحفة للحرية ، و التي نتجت من إستيعابنا الغير مكتمل لل"فكر" ، وأثر ذلك في تقبلنا للإختلاف و التغيير مرورا بالكثير من الآليات المفرخة لمظاهر (عسكرة الفكر) كالرقابة بجميع صورها والسلطة الثقافية و الدينية و السياسية.
إن سيطرة الفكر الثوري - وسيتضح مدى مغالطة التسمية – لأغلب نواحي الحياة في بلادنا لما يزيد عن الربع قرن في أفضل الأحوال ، إنما ساعد على تسرطن الفكر العسكري وأحادية القطب في كثير من مؤسساتنا و منشأتنا وصولا للأسرة و هي اللبنة الأولى و الأهم في المجتمع ،مع أننا فعليا و تاريخيا لم نتخط المرحلة الوسطى من الثورة ، ألا وهي العسكر ، فالثورة لاتقف أبدا على كتف رجل عسكري مهما كان كتفه لامعا ، إنما هو يقدمها و يرحل ، ولكن ذلك لم يحدث في بلادنا - على الأقل ليس بعد - ، فقد أغوته بجمالها ، و ثار الثائر على ثورته ، وتوقف بنا الزمن على عتبات مرحلة الامرحلة ، و عاد بنا لعصر الجواري و ملك اليمين ، لتصبح الثورة حينها جارية لدى عسكرها ، تشكر له مواقعته لها كل عام مرة على رؤوس الأشهاد ، ليثبت لهم فحولة ماكانت لتكون له ، وعذرية أدمت صاحبتها بآدابها و فنونها وثقافتها و شعرها و نثرها ..وحتى أهلها ، ليتناثر كل ذلك دما على وجوه الحاضرين وتاريخهم ، وتغرق صرخاتها بين صرخات المحتفلين في طقوس عصور الوثنية الأولى .
وكانت تلك البداية لحلقة مستمرة من مسخ جميع مسلمات الحياة الإنسانية ، فدخولنا عصر عسكرة الفكر ، أصبحنا لانتعامل بغير لغة الأوامر و النواهي و أحادية السلطة بدل إنسانيتها ،فلا مكان للصحة و الخطأ ، فقد تم إحتكار الصواب ، ليصبح التفكير تكفيرا ، وتصبح العلاقة الفكرية هي منظومة إقصاء و ليست إستقصاء.
أصبحت الحرية الفكرية حقا مكتسبا ، يستوجب شكر و لي النعم ، لمباركته الفعل الإنساني الأول والأكثر بدائية و أصالة بأوراق ثبوتية تحمل إسمه أو إسم أحد زبانية فكره بحبر أزرق فوق كل الألوان ، ذلك الفعل هو إرادة أكل التفاحة.....بحرية.
إن ما تشهده ساحات وطننا العربي الثقافية و السياسية و الدينية ، من إقتصار الفكر ليكون فقط فعلا أو ردا لفعل فقط ، ما هو إلا نفي لأهم أساسيات الفكر وهي الحرية المطلقة وجعله متحركا على مستوى أفقي واحد ، في حين أن الفكر لا يتحرك سوى في الفضاء كاملا ، ولكن ذلك المستوى الأحادي إنما وجد ليضع الفكرة كما الفرد عرضة للقبول أو الرفض برد مناسب للفعل ، وليس الصحة أو الخطأ. وهنا يظهر دور المؤسسات الدينية و الثقافية و السياسية ، و التي تمنح صكوك الغفران للأفكار و الأفراد، وتصم الكفر و الفسوق بالبعض الآخر، لإسباغ الغضب الإلهي عمن خرج عن خط الفعل ورد الفعل......فعلهم. وكأن الفعل- الفكر يستقي صفته من فضاء الرد على على فعل آخر، يعطيه شرعيته بكينونته كفعل أول لا بتميز الفكر و حريته وتفرده الحر، لتكن حينها الفكرة معرضة للقبول أو الرفض ، ومن ثم المباركة أو الرمي بالكفر و فجور و العصيان في تمثيل أوقح ما يكون للألوهية ، فأصبحنا في دار عبادة كبير كبر الوطن بحضور وكلاء آلهة العصور الوثنية تراقب إيمان كل مصلي تحت المحراب ...ودعاءه وفكره.
إن سلطة الرقابة ماهي إلا وضع لأبجدية محددة للفكر لاخروج عنها ، هي إنتقال السلطة الدينية و السياسية و الثقافية لحالة من الإستبداد تطوف بكعبة الفرد لا الفكرة. وكأن خروج الفكرة عن تلك الأبجدية هو هرطقة ، إن بربرية تلك الظاهرة تكمن في أنها إختصار لجميع الهويات والإمكانيات و القدرات و الإختيارات و التجارب و الإنتماءات والأفكار الفردية السابقة و اللاحقة للفرد في فكرة تقبل أو ترفض ، فيقبل هو بكل كينونته المتجددة أو يرفض بهم جميعا.
ألم يتساءل واضعوا تلك الأبجدية عن حالة نزيف الأدمغة التي يعاني منها عالمنا العربي؟
الم يتساءلوا عن علاقة تلك الأبجدية الهيروغليفية بحالة الصمم الثقافي و السياسي و حتى الديني لدينا؟
ألا يرون علاقة بينها و بين تزايد إنتماءاتنا الإستهلاكية ، فقط؟؟
أليست تلك الأبجدية هي أهم جنود عصر الوثنية السياسية التي تغرق فيها بلادنا وثقافتنا و ديننا وحتى هوياتنا بل و الأهم على الإطلاق.
إن فرض خيال السلطة فوق سلطة الخيال و منهجية وأبجدية التفكير السلطوي وليس الفردي ‘ فوق العقل الجماعي بإسم حماية الدين و الثقافة و السياسة ، هو تحدي بالغ القبح والسفه و السفور لكثير من المباديء المؤسسة لكل تلك العناصر ، فالدين يقوم على الإجتهاد و التفكر ، و السياسة تقوم على إحترام حرية الفرد وإختياراته سواءا أقلية أو أكثرية ،والثقافة تقوم على التميز الفردي وديناميكيته الفاعلة و المؤثرة في الهوية الثقافية الجمعية؟؟
في زمن مسخ الوعي الجماعي للأمة بتلك الأبجدية المحدودة و القاصرة ، لانستغرب حالة الرقابة الفردية على مستوى الأفراد ، ليصبح كل مواطن في هذه الأمة شرطيا للرقابة ، مطبقا أبجديتها ومصدرا لأحكامها يقبل ويرفض ويرمي بالكفر ويسبغ الإيمان ،ويعتمد المصائر و الأحكام ، لا عن إقتناع بصحة أو خطأ الفكرة بقدرما هو تطبيق أعمى لأوامر أيقونات السلطة و الرقابة وأبجديتهم ، مما ينقل المجتمع الإنساني من كونه تجمعا لمجموعة من الأفراد لكل فرد تميزه و كينونته الحرة المستقلة وإختياراته المستقلة بناءا على مجموعة من الأفكار و التجارب و الإنتماءات إلى مجموعة من شرطيي الرقابة وجلاديها مهمته مراقبة الإنسانية حينما تخرج عن الإرادة السلطوية –الفردبة الشخص أو الحزب في الغالب- ومعاقبتها ، لتصبح أوطاننا معتقلات كبيرة اسوارها حدودها يطارد عسكره من حلت به متلازمة الإنسانية الأولى و هي الحرية و الإختلاف.
بل ان في كثير من الأحيان ، و بإستخدام الكثير من الايقونات الدينية و السياسية و الثقافية تلجا تلك السلطة و الرقابة بطريق مباشر او غير مباشر إلى توظيف بروتوكولات ظلامية وذلك بتمييع التعاريف و الخطوط الفاصلة ما بين شقين تحت بند المجهول أو الشبهات ، فمثلا ، وكما إعتدنا في أفلامنا - والسينما من أصدق المرايا – أن نجد من ينعت الليبرالية أو العلمانية أو أي توجه فكري بالكفر و الفسوق والإلحاد ، في حين أن الكثير من حملة تلك الابواق لا يملكون اولى حلقات المعرفة وهو التعريف الأكاديمي و العلمي الصحيح لأي فكر كان ، بل ويعتمدون على الكثير من الإطلاعات الإنتقائية و العناوين الرنانة ليصدر حكما بالغ العنف على الكثير من الأفراد و الأفكار و التي لايمكن إنكار مساهماتهم في زخم الحياة الإنسانية.
وهنا يجول في خاطري سؤال سبقني إليه أدونيس عن السلطة و الرقابة والإستبداد الديني بالذات: لماذا يسكت أهل المعرفة و الحكمة في الإسلام عن مثل هذه الممارسات المتزايدة و العنيفة ، قولا و عملا ، و الآخذة في تحويل التجربة الإسلامية الكبرى لمجرد تجربة سياسية عسكرية في الحكم و الهيمنة وتحويل النص القرآني إلى مجرد فقه سلطوي وعزله تبعا لذلك عن الحياة والإنسان ، وعن الفكر و العقل؟. وهو الدين الذي بدأ ب(إقرأ) مفتاح الفكر.
وللحديث بقية

رابط المقال على صفحات موقع قوميون عرب:
http://arabnationalists.org/index.php?option=com_content&view=article&id=229%3A---1-------&catid=1%3Alatest-news&Itemid=50

المقال pdf
http://arabnationalists.org/index.php?view=article&catid=1%3Alatest-news&id=229%3A---1-------&format=pdf&option=com_content&Itemid=50

No comments: