Tuesday 1 September 2009

الفن


الفن في ابسط تعاريفه هو لفظ يجمع جميع المحاولات و الأنشطة الإنسانية لمحاكاة الواقع و الحياة.

أختلف مع أفلاطون الذي وضع الفن في أسفل مراتب الإنتاج الفكري ، حينما إعتبره مظهرا لمظهر من مظاهر الحقيقة ، أي أنه لاينتج حياة بل يعيد إنتاج أحد مظاهر الحياة ، ومن هنا كان إعتبار أفلاطون للفن أنه لايمثل شيئا على مستوى الحقيقة ، وبعد مناقشة الفن في الكتاب العاشر من مملكته الفاضلة توصل لطرد الشعراء و الرسامين منها.
الكثيرون تحت حجج حماية المقاييس الإجتماعية والأخلاقية والدينية ، يبررون الإنتقاص من قيمة الفن وضرورته على إمتداد التاريخ بل ويصل بهم ذلك حد المطالبة بمنعه أو منع البعض منه او رقابته، والتاريخ يشهد من الدعوات الظلامية تلك الكثير ، والتي تعاني من قصور تعريفي بالقيمة الحياتية والفكرية والتاريخية للفنون ، ونظرة قاصرة لتأثير إفتقار مجتمعاتنا للثقافة الجمالية والفنية والوعي الإنساني البسيط بقيمة مظاهر الحياة والتي تضاهي الحياة ذاتها قيمة.

إن تعاطي أفلاطون و من ورائه الكثير من الجهات والأفكار الرقابية مع الفن ، هو تعاطي مادي بعيدا عن الحاجة الإنسانية لجمالية التخيل وسمو الخيال الوصفي وإستخدام عضو مختلف عن باقي الأعضاء الإنسانية الخمسة ، وتأثير ذلك على الحقيقة وتعاطينا معها ومع إنسانيتنا .
فكما قال الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط (الجميل هو مايروقنا ، والسامي هو مايثيرنا )، فالعواطف موجودة في الذوات وليست في الحقيقة أو الحياة الصلبة بل وتختلف بإختلاف الذوات، وجمالية الفن تبقى مشروطة بالذوات فتأثير الفن يختلف عن الحياة ومظهرها ليس كذبا إنما تخيلا في فضاء مفتوح ، للفرد فيه حرية الترجمة والتعاطي مع الخيال . لذا فمهاجمة الفنون –إن صح التعبير- لا تعدو كونها إنتقاصا من قدرة الخيال الإنساني وحريته وسموه وإرجاعها لحواس خمس بتسلط خيال وعقل آخر .

لذا وجب وضع الفن كحالة ندية أمام جمالية المظهر الحياتي – الحقيقي وضرورته ، ولفظ (جمالية) ههنا أكبر من إستيعابنا القاصر في الغالب له ، فحتى للألم جمالية تستشعر ، تستحق أن يصورها الفن أيا كانت .
فمثلا الحقيقة والواقع يقولان : مجتمعاتنا العربية تعاني حالة من الفقر و الفساد السياسي و الإجتماعي وما إلى ذلك .
هنا يظهر دور الفن ليرصد ويلقي الضوء على مظاهر تلك الحقيقة ويسجلها مهما كانت فاسية وصادمة فهي موجودة وستظل موجودة وتعامينا عنها لن يخفيها.
فالفن يكسر القواعد والتابوو ويتعدى خطوطنا الحمراء ويضخ دماءا جديدة في شراييننا ، ليشعرنا أننا لا نزال نستطيع ممارسة الفعل الأبسط في الحياة وهو أن نحيا بكل مظاهر الحياة.
ومن ثم نستطيع التعامل مع الحياة.

* * *
كان لمحمود درويش يوما سؤال يقول :
( هل لشعب يملك شعراء كبار أن يسيطر على شعب لا شعراء له؟؟ وهل لشعب أن يكون قويا بدون أن يكتب شعرا؟؟؟)
وذلك تعقيبا على شعر هوميروس الشاعر الإغريقي الذي روى ملحمة طروادة من طرف الحصان.

فلما الشعر؟ ولما كانت له كل هذه السطوة؟
إن الشعر هو فن اللغة ، واللغة هي أداة التعبير الأولى التي إخترعتها الإنسانية لتعبر عن نفسها وتتواصل ، اللغة هي الميراث الأكبر لأي حضارة كانت ، وهي أيضا مفاتيح مظاهرها الحياتية ومن ثم الفنية ، فمن الشعر خرج الأدب والرسم والنحت والمعمار والغناء و الرقص وحتى الحروب ، إذن فنحن لن نفهم فنوننا إلا بقدر ماتتشكل هي كائنات لغوية - شعرية في خيالنا ومن ثم فنا ، إذن فكل الفنون تعتبر مشروعا شعريا ، وكما أن الشعر لغة / فالفن لغة.

الفن يؤسس للتاريخ ، ولن يكون للبشر تاريخ إلا بالقدر الذي تتكشف فيه الحقيقة ومظاهرها أمامهم ، وبإستقرارها ومظاهرها في جميع فنونهم.
لذا برزت ضرورة الفن كحاجة لابد منها تاريخيا وإجتماعيا وثقافيا وحضاريا وحتى فرديا.

* * *
وبالعودة لسؤال محمود درويش نرى ان التاريخ يظل ناقصا في كامل حضوره ، لأن الشاعر الطروادي لم يحضر بعد ليكمل تاريخه من الجانب الآخر للحصان.

فلنبحث عن فنوننا ليضيء بنا تاريخنا ولكي لا نقف أمام الحكاية يوما غير مكتملين ننتظر شاعرنا الذي قتلناه.



وللحديث بقية

No comments: