Saturday 26 September 2009

المعرفة و القوة : ما بين نيتشه وإدوارد سعيد



" كونوا قطاع طرق وفاتحين مالم تستطيعوا أن تكونوا مهيمنين أو مالكين ، أنتم رجال المعرفة ، قريبا ستمضي العهود التي كان يكفيكم فيها أن تعيشوا مختفين في عمق الغابة مثل الأيائل ! وأخيرا ستضع المعرفة يدها على كل ماحولها ، سترغب في أن تسود وتملك ، وستسودون معها وتملكون"

فريدريك نيتشه

إن فكرة (السيد و العبد) التي كنت المحور الأكثر بروزا وديناميكية في فلسفة نيتشه كانت فاتحة للكثير من الأفكار التي نراها مزدوجة المرجع لدى التعامل مع ثوابت الإنسانية كالأخلاق و الثقافة و المعرفة والحريات والتي تختلف فرديا وليس طبقيا كما لدى الفلسفة النيتشويه. فنيتشه الذي كان يرى في إنتشار المعرفة و الثقافة بين العامة في أوروبا إنما هو بداية إنهيار للحضارة الأوروبية ، لما في ذلك من إقتسام للحريات والواجبات و المراتب مما سيعمل على ترويض الإنسان وليس أنسنة الوحش بداخله .

فنيتشه صاحب مقولة (إن الرب قد مات ) الخالدة يرى في إقتسام المعرفة و الحريات بين البشر قضاءا على الجانب الحر الطبيعي في الإنسان وهو الجانب الفاعل فيه والأكثر إنتاجية ، وهي ذات الحجة التي عارض فيها نيتشه أفلاطون الذي طرد الفنانين من مملكته الفاضلة ، حيث أن نيتشه يرى وجوب عدم سيطرة العقل في الحياة الإنسانية بهذا الشكل الغير متناهي، لأنه بذلك سيطغى ويدمر الجزء الإنساني الطبيعي الخارج من رحم الطبيعة و المساق بالشهوات و النداءات الفسيولوجية وحب السطوة ، وهو الجزء الأغزر إنتاجا فنيا وإبداعيا .

فنيتشه الذي نادى بأفضلية الجنس الأبيض وتميزه ، وكون ذلك الجنس هو صاحب النتاج الثقافي الأنقى والأفضل والأكمل على إعتبار أن الثقافة بكل ميكانيكياتها ترتبط إرتباطا وثيقا بالخواص الجسدية والفسيولوجية لأصحابها فالجنس الأوروبي والآري تحديدا ومثال ذلك الأغريق هو المثال الأكمل والأجمل فسيولوجيا لدى لذا فهو الاقدر على إنتاج حضارة وثقافة عظيمة على غرار الإغريقية مما يضع على عاتقه – من وجهة نظر نيتشه – فرض ثقافته الأقوى والأفضل والانقح وهي ههنا ثقافة السيد على ثقافة العبد وهو الآخر الملون صاحب الثقافة الأدنى ‘ لذا فالمعرفة لدى نيتشه لاتعدو كونها جزءا من العملية السياسية لفرض السيطرة المعرفية وإدماج الآخر الأدنى (العبد) في عجلة التطور والتنقيح التي يقودها الأوروبي ذو السيادة.


أما المفكر إدوارد سعيد والذي تناول في العديد من كتبه وحياته الأكاديمية وأبحاثه مناقشة إحدى أهم العمليات المعرفية في التاريخ وأبعادها السياسية ألا وهي الإستشراق والذي تنأى عن كونها عملية صافية النوايا لتقديم الشرق للغرب وتكاد أن تكون جزءا من العملية السياسية وسلاحا إمبرياليا يوظف المعرفة ضمن سياق سياسي ليس إلا ، فالإستشراق لدى سعيد هو إلقاء الضوء على الشرق بغية تطويعه إمبرياليا وثقافيا للغرب ، فالكثير من صور المعرفة الأدبية بالشرق قدمته ضمن إطار مايريد أن يراه الغرب لا كما هو عليه ، مثال ذلك رواية (قلب الظلام) للكاتب جوزيف كونراد والتي إستحوذت من دراسات سعيد النقدية والسياسية نصيب الأسد ، والتي كانت مثالا واضحا – لدى سعيد – لتطويع المعرفة كأداة سياسية ، وما نتج عن ذلك من حركات أدبية وطنية مضادة وصلت لوصف تلك النوعيات من المعرفة الموجهة سياسيا ، بأنها إنتاجات لا يجب أن يقرؤها الأفارقة والعالم لأبعادها الإمبريالية وليس لأبعادها الفنية وغناها المعرفي الذي يفترض أن يكون بريئا وبعيدا عن السياسة وخادما للفكر فقط.

لذا فالمعرفة لدى إدوارد سعيد في أطروحاته لاعلاقة لها بكينونة الفكرة أيا كانت بقدرما لها علاقة بقيمة توظيف الفكرة سياسيا و إمبرياليا ، فالرابط بين المعرفة و القوة من وجهة نظر إدوارد سعيد عملية ديناميكية وصلت حد إنتاج بعض المؤسسات العلمية والمفترض بها أن تكون مؤسسة بحث موضوعي جاد وحيادي ولكنها مؤسسات وظيفتها إعمال المعرفة لبسط القوة ، مثال ذلك كان (التجمع الملكي الجيوغرافي) في لندن والذي جاء على لسان مديره عالم طبقات الأرض والجيوغرافي رودني مورشيسون : (مهمة التجمع ليست إكتشاف أفريقيا بقدر ما هي مهمة عسكرية).


يقول إدوارد سعيد : ( إن وجود علاقة وثيقة مابين السياسة والإستشراق ، أو لنضع الأمر بشكل اكثر إحتراسا إن الإحتمال الكبير لإستخدام الأفكار المستنبطة حول الشرق من الإستشراق لأغراض سياسية هو حقيقة هامة لكنها حقيقة حساسة جدا فهي تثير أسئلة حول النزوع الطبيعي للبراءة أوالذنب ، حول النقاء من التحيز في البحث العلمي أو تواطؤ التجمعات التي تمارس الضغوط في ميادين مثل دراسات السزد ودراسات المرأة ، وهي بالضرورة تستفز شعورا بالقلق في ضمير المرء حول التعميمات الثقافية والعرقية والتاريخية وحول إستخداماتها وجدواها ودرجة الموضوعية فيها ونواياها الأساسية ).


بعد هذا الإستعراض السريع للإزدواجية العلاقة ما بين المعرفة و القوة ، أو الثقافة و السياسة من وجهة نظر الفيلسوف الألماني نيتشه و المفكر إدوارد سعيد ، إلا أن كلا من الأطروحتين في نظرنا قد تجاهلت عامل الزمن ، وهو أحد العوامل الهامة بجانب الكثير أيضا منه الإقتصاد والحريات والأديان والتعليم والمؤسسات المدنية مما يصل بنا لمنظومة العولمة والتي لن تكفيها ساحتنا للعرض ههنا إلا تباعا في مقالات مقبلة .

وبالعودة للزمن وتحديدا زمن إنتقال المعرفة وإرتباط ذلك الزمن بالعامل السياسي وإلتقاء الثقافات وليس صراعها ، أجد نفسي أعود لذكر أحد أهم النظريات في عصرنا الحديث وهي نظرية المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي التي ذكرها في نص نشر عام 1973 موضحا مسار الإنسانية في ثلاثة مراحل، و التي أوردها أنا هنا بكثير من الإيجاز:

1.
في المرحلة الأولى (ماقبل التاريخ) كانت الإتصالات بطيئة للغاية و تطورات المعرفة تسير بشكل أبطأ ، حيث كان كل جديد أمامه مايكفي من الوقت لينتشر حول العالم، قبل أن يأتي جديد آخر ، لذا فقد كانت المجتمعات الإنسانية تملك الدرجة ذاتها من التطور، و الكثير من الخصائص المشتركة.

2.
أثناء الفترة الثانية كان تطور المعارف أسرع من إنتشارها لبطء وسائل الإتصالات ، فأصبحت المجتمعات أكثر فأكثر تمايزا في كل المجالات وقد دامت تلك الفترة من السنين آلافا فيما نسميه بالتاريخ

3.
الفترة الثالثة تتقدم أثناءها المعارف و العلوم بصورة متسارعة ، وإنتشارها من هنا إلى هناك يسير بشكل أسرع ، لدرجة أن المجتمعات الإنسانية ستجد نفسها أقل فأقل تمايزا ، ولديها من نقاط الإلتقاء و التشابه الكثير و الكثير.


أما تعريف "الثقافة" كما وردت في كما ورد في كتاب عالم الأجناس البريطاني السير إدوارد بيرنت تايلور (الثقافة البدائية) والذي نراه منطقيا جدا ومبسطا :

الثقافة هي كل مركب يشمل المعرفة والعقيدة والأخلاق والقانون و العادات وأية إمكانات أو ممارسات يكتسبها الإنسان كعضو في المجتمع ).


وإنطلاقا من هذا التعريف وبإعمال نظرية أرنولد توينبي في تواصل الثقافات و المجتمعا في زمن الفضاء المفتوح والعالم – القرية ، يمكننا القول أن عناصرنا وموروثاتنا الثقافية و المعرفية ستكون بسبب المماهاة مابين الحضارات عرضة للنقد والتفكير مرارا وتكرارا لتجد لها مكانا على قائمة البقاء ، وبالذات بعد أن إنفصل التواصل الإنساني عن الآلة السياسية والنظامية (وليست الإقتصادية بعد) بشكل كبير فاصبح لأغلبنا نفاذة يحادث العالم منها وينشر فكره وآراءه .

إن حاجتنا لتنقيح موروثاتنا الثقافية والمعرفية وكسر قاعدة الأصاله لصالح التحديث تحت قاعدة النقد و النقد الذاتي وقبول الإختلاف هو ضرورة بقاء قاعدتها الفكرة الأصلح والأكثر تماشيا مع الفكر الإنساني وتفاصيل الراهن والتاريخ.

إن تحرر المعرفة بشكل كبير عن ركب السياسة ، ولو بشكل غير مكتمل يعطينا فرصة سانحة وقوية للتفاعل مع الحضارات وليس الصراع ، إلا أن ذلك لا يعني عدم وجود حضارات يتهددها الفناء وليس الصراع إنها الحضارات التي عزفت عن التواصل مع الآخر وإلتصقت بالتأصيل حد تجاهلها لنداءات التحديث والتواصل مع الذات والآخر ضمن مرجعية العقل و الصلاحية ، كما أيضا هي الحضارة أو الثقافة التي أخذت من الآخر كل شيء في إمتصاص بعد عن النقد والتنقية على أساس تفردها عن ذلك الآخر.

وللوصول لتلك المرحلة من التفاعل الحضاري والثقافي و المعرفي المنتج يجب :

  1. التعامل مع المعرفة بحكم أنها تسيرحسب قاعدة النشأة والتطور بالتراكم ، لذا فهي تنشأ وتتطور بالتعامل مع المنظومات والأفكار المختلفة بدون تجاهل هويتها المميزة لها.
  2. إن المعرفة و الثقافة تنمو بالحوار والتبادل ، وقاعدة أي حوار النقد والمساءلة والذين ينتجان من ثقافة الإختلاف وإحتواء الآخر.
  3. إن الفكر و الثقافة ليسا بنية معرفية مغلقة تتناسل فيما بينها كالمستعمرة المغلقة ، بل هي تعبير عن المحيط التاريخي و الواقعي ، بكل مافيه من مترادفات ومتضادات ، لذا فالثقافة و الفكر يكتسبان قيمتهما الحضارية من قدرتهما على تمثيل اللحظة التاريخية و التعبير عنها تلك اللحظة التي تحتوينا نحن و الآخر ، ومن ثم تغييرها للأفضل.

وللحديث بقية....

Sources:

1.BEYOND GOOD AND EVIL by FRIDRICH NIETZSCHE.

2.THE GENEALOGY OF MORALS by FRIDRICH NIETZSCHE.

3.ORIENTALISM by EDWARD W. SAID

4.CULTURE AND IMPERIALISM by EDWARD W.SAID

5.

الأنا والآخر مجموعة مقالات بإشراف د. محمد عابد الجابري.

No comments: