Friday 15 October 2010

من أوراقي : في الكتابة

في الكتابة..
أقول لنفسي...




عندما تتمنطق قلمك لتخط حروفا على ورق ، تذكر ، أنت تحاور ذاتك ، تحاكمها ، تدافع عنها ، تتهمها ، في العلن ، تنفصل عنها ماديا لتتحد معها كتابيا ، في عالم تتحاور فيه مع ذواتك ، لا لتستمع  إليهم بقدر ما يستمعوا هم إلى بعضهم ، أنت تعيد خلقهم لا لتعايشهم بل ليتعايشوك ويتمردوا عليك.
الكتابة هي "حالة حوار" ، قد تتجسد شخوصا انتقلوا من حبرية عالم الورق إلى ميتافيزيقيا عالم الإنسان ، لتراهم وتسمعهم ، يحاورونك..يرافقونك ...يجادلونك..أتذكر أنني إشتممتهم كثيرا حولي ورأيتهم ، وأعلم أنني لا أتوهم.
أن تكتب أي أن تتعدد في الأبعاد ، أن تتناسخ ، فتصبح هنا وهناك ، بداية ونهاية ، وأن تكون بين بين ، منفى ووطن . الكتابة هي "مرآوية" ناطقة ومتمردة وثائرة تعري "مايجب" لا فقط "ماهو".
أن تكتب في زمن العار و الفساد والقسوة والنهار المهزوم بالظلمة ، أي ألا تبشر بنصر محتوم ، ولافرح مخادع ، في زمن تعليب الخدر . أن تكتب في زمن "مآخاة النفط للدم و الدولار" أي أن ترفض وتتمرد ، أن ترفض الكتابة الساخرة ، وأبجديات الإستسهال الثقافي . أن تكتب في زمن العرايا وتشيؤ الإنسان أي أن توقظ المتلقي العائم في الزوايا الغبارية ، أن تكسر الرابط بين "الأغلبية" و "الصمت" ، ألا تهاب المفردات السماوية ولا الأرضية. أن تكتب في هذا الزمان العربي الفاحش العورة يعني أن تكون فضائحيا بامتياز.
في البلاد ، بلادنا المسربلة بمحيطات جهل وغيبية ، وفي مدار القاريء الذي  يحارب الأمية التعليمية والأمية الثقافية ، و الإعلام الإستهلاكي وقبلته الكرش و الكرسي ، لتهب عليه بعدها ضبابات الغيبية و التكفير بتهمة التفكير واللاهوتية الصنمية التي أصبحت زادا يوميا معاشا ، يغرقنا ونتساءل "هل من مزيد" حمدا على المكروه..ولا يحمد على مكروه سواه.
في تلك البلاد ، بلادنا ن ترد تهمة "النخبوية" على اصحابها ، فالمناداة باحتكام الخطاب الفكري على قياس المتلقي ، إنما هي دعوة إنهزامية لعصر الإستسهال المعرفي المعلب ، وأستسلاما لسطحية الوعي بمزيد من التسطيح ، بحجة التبسيط الفكري على القاريء ، ذلك القاريء الذي استسلم لإستلابه اجتماعيا وسياسيا وقرر أن يطالب الكاتب ما عليه هو من واجب التفكيك و المساءلة و النقد، فهو هاهنا يعمد لسياسة التوصيل العقلي ، ألسنا في عصر الوجبات السريعة؟ أليس القاريء دوما على حق باعتبار أنه زبون في عصر العولمة و الفكر منتج..ويحيا الإستهلاك وما أجمل أن يكون استهلاكا استسهاليا.
أليس في توزيع الأضواء على ارفف مكتباتنا مايعري الكثير من تكاسلنا وتثاقفنا؟
قال لي أبي يوما: الكتاب الذي يفكر بالنيابة عنك ، لا حاجة لك لقراءته.
إن قراءة كتاب  تاركا إياي في حالة من المساءلة ، و الدأب لتفكيك الرمز و الأسلوب  و الفكرة و النص و التأويل ، إنما هي حالة من الشبق المعرفي الذي يحول القاريء من تلقي الكتاب، للمشاركة فيه ، فيغدو محاورا ويتحول الكتاب حوارا ، بما في ذلك من نهم معرفي لا ينتهي ، وحالة من التحدي والإرتقاء بالذات ، تتحول حينها الأنشطة المعرفية من مجرد سلعة رفاهية في مجتمع يلهث بحثا عن أقل مستويات المعيشة الكريمة ، إلى أساس لا يقل أهمية عن الغذاء و الصحة و العمل ، وهو ما يفصل بين المجتمع الإنساني – الأرقى  و المجتمع الحيواني- الأدنى : الفكر.
لذا أعلنها هاهنا : سعيد أنا بنخبوية كتاباتي ، التي تحررني من القاريء الكسول و المتثاقف ، و أعلن وقوفي أمام عقلية : إركب الموجة ، متمردا ورافضا وفضائحيا مقاوما ، لثقافة السطح ، باحثا عن مفكري العمق.
ولا أجد بدا من تذكر مقولة الكواكبي :
إن الإستبداد و العلم ضدان متغالبان ، فكل سلطة مستبدة (دينية،سياسية،إجتماعية، ثقافية) تسعى جهدها لإطفاء نور العلم وحصر الرعية في حالك الجهل ، وإن العلماء – الحكماء الذين ينبتون أحيانا من مضايق صخور الإستبداد يسعون جهدهم في تنوير افكار الناس.



photo by Hanan Mahmoud

No comments: