Friday 8 January 2010

المعرفة و القوة : العولمة (3): إرث الإستشراق و الإستعمار


للفظة ( الشرق) و (الغرب) الكثير من الدلالات السياسية و الحضارية و الأيديولوجية خارج المدلول الجغرافي البريء في كتب الجغرافيا في المدارس.

فإفريقيا التي تعتبر جزءا من الشرق السياسي ، تقع إلى الجنوب جغرافيا من القارة الأوروبية و التي بدورها جزء من الغرب السياسي ، و الأخيرة تقع إلى الغرب جغرافيا من الولايات المتحدة التي تمثل قطب الغرب السياسي.

وهكذا ، فسقوط إحتكار مدلول مسميات كالشرق و الغرب جغرافيا ، يفتح بابا للتساؤل عن الإرث المنتج من تسييس الإتجاهات الجغرافية .

ولم لم تنتج تلك الإتجاهات الجغرافية حركة معرفية تعادل الإستشراق ولتسمى إستغرابا؟

بل ولم لم يتم الإمعان في تقسيم الغرب معرفيا وسياسي كما قسم الشرق إلى أوسط و أدنى و أقصى؟

كما لم توجد حركة معرفية أنتجت لنا كل هذا الكم من أقسام دراسات الشرق في جميع جامعات العالم ومحافله الدولية واللغة العربية تحديدا و التي سميت الإستعراب.

وماعلاقة ذلك الإرث المعرفي المسيس - في ظني - بالحركة الإستعمارية قديما والعولمة حاليا؟؟

إن الشرق و الغرب لاحد يفصل بينهما ، كما أن مدلولاتهما السياسية و الحضارية ليست بحال من الأحوال بريئة من الإرث الإستشراقي ، مما يستخدم كأداة تعريف وتنميط للعلاقة في الحوار الحضاري بين الأمم ضمن أطر بعينها.

وقد يظن انما المعنى قد سيق به ضمن سياق نظرية المؤامرة في حين أنه ليس سوى صراع قوى على المصالح و الثروات والنفوذ أيا كان الطرفين، ولو فرضنا أنه كان معكوسا .

فالإستشراق في أبسط صوره وتعاريفه :

هو ظاهرة دراسة المجتمع و الأدب الشرقي من وجهة نظر غربية ( لاحظ الجهات الجغرافية الموجهة) ، إلا أن الإستخدام الأغلب كان لدراسة الشرق إبان العصور الإستعمارية مابين القرنين الثامن عشر و التاسع عشر الميلاديين . (لاحظ أولا الجهات الغير جغرافية وتقيد المعرفة الحرة فرضا بزمن).

وقد قدم المفكر إدوارد سعيد تعريفا لل "إستشراق" في كتابه الذي حمل نفس الإسم وصدر عام 1978 ، ثلاثة تعريفات للإستشراق ، يعتمد بعضها على بعض :

* التعريف الأول:

كل من يدرس الشرق أو يكتب عنه أو يبحثه سواءا في سماته العامة أو الخاصة فهو مستشرق، ومايفعلى هو إستشراق.

* التعريف الثاني:

الإستشراق هو أسلوب من الفكر المستند على تميز وجودي ومعرفي بين الشرق و الغرب.

* التعريف الثالث:

أسلوب غربي للسيطرة على الشرق وإعادة هيكلته لإمتلاك السلطة أو السطوة عليه وتطويعه.

ومنطقيا تتبع ذلك إنتاج ثلاثة أنواع من المستشرقين لا يسعنا ههنا اعطاء أطروحة الدكتور أدوارد سعيد حقها من التفنيد و النقد ، إلا أن ما يمكننا قوله أن الفكر الإستشراقي قد أنتج لنا منتجا فكريا تناول التعاطي مع الإرث المعرفي العلمي و الفلسفي و الديني و الحضاري الشرقي بكل جوانبه ، و أخص بالذكر ههنا الجانب العربي عامة و الإسلامي خاصة بدون الفصل .

وذلك لأن نصيب الشرق (الجغرافي) من دراسات الإستشراق التي تناولت الحضارات الصينية و الشرق الأقصى والساموراي و الكونفوشيوسية والبوذية و الهندية وما إلى ذلك قد وظفت جيدا وكما يجب أن تكون: دوعة للتوازن مابين الأصالة و الحداثة لتصبح منطلقا للكثير من الدول للتقدم كالهند التي إنعدمت حركة الإستيراد لديها واليابان العملاق الصناعي وأخيرا وليس آخرا العملاق الصيني الأحمر ، وذلك مع كل الإحترام لفارق الزخم الحضاري و التاريخي و الثقافي.

كان ذلك المنتج الفكري الإستشراقي أحد إثنين:

1. منتج تعمد تزوير الحقائق التاريخية وشواهدها على أرض الواقع ضمن الإطار السيادي (فرق تسد) ضمن منهجية تميزت بإنعدام الموثوقية العلمية و الأكاديمية و المهنية والتي وصلت مؤخرا حدود التزوير ، والتركيز على الشواذ التاريخية وتعميمها كنمط كأزمنة الحروب و المحن ، وكذلك أنماط الطائفية الدينية و القبلية المتصارعة وغرسها ضمن السياق التاريخي كقاعدة متجاهلا الكثير من شواهد التمازج الحضاري و الثقافي و العلمي الذي وصل حدود هيكل الدولة التي أصابت من المؤسساتية الكثير، مما شهدته الساحة الحضارية العربية و الإسلامية بكل ما أفرزته من فنون وآداب ، منكرين ذلك الدور التأسيسي في الحضارة الإنسانية ككل.

إن هذا المنتج يحمل في طياته خطرا حضاريا محيطا لا يمكن إختصاره في التزوير فقط ، لأنه دعوة للعقول والأقلام الفكرية و الثقافية العربية و الإسلامية لتصبح فقط ردا لفعل، كل ماعليه أن يبحث ويفند تلك التواترات الضعيفة و المغلوطة وتنقيتها من توجهاتها السياسية الغير بريئة ، وذلك بالسير في التاريخ إلى الوراء و الإمعان في قراءته بشكل إنتقائي ورجعي. في وقت نحن أحوج ما نكون فيه لقراءة فلسفية للتاريخ مهمتها تصويب أخطائنا لا أخطاء الآخر.

كما أن ذلك المنتج يولد إحساسا غير ديناميكي في أغلب الأحيان بالظلم ينتهي بالكثيرين لإستحواذ دور الضحية والشهادة ، فيما يفسر تسرطن نظرية المؤامرة الذي بلغ حده أن إستفحل في الكثير من العقول الموجودة حاليا على الساحة الفكرية و حتى السياسية.

2. منتج ثاني و إن كان يتحلى بالمصداقية و الثبونية والأكاديمية التاريخية إلا أنه في نظري يعد أشد خطورة من المنتج الأول و إن كان ينتهي لنتيجة مقاربة.

لأن كل تلك العناصر لدى التعامل مع التاريخ الشرقي العربي و الإسلامي ، وماأثبته من دور ذلك الشرق في البناء الحضاري الحالي - تحت أي مسمى جهوي كان- ، إنما هو و بالموازاة معنظرية المؤامرة يعد مخدرا ، كمن يتغنى اليوم لفقير معدم بثروة أجداده ومجدهم وسلطانهم ، فينام ذلك المعدم حالما بالثروة والمجد و الغنى ، بعد أن تمت تغذيته بالحلم البائد ليصبح حلم يقظة يحمله لبعد آخر عن الواقع ، وهو في كلا الحالتين : في صحوه ومنامه ..هو مغيب.

إن كلا من المنتجين السابقين للإستشراق ورد الفعل الناتج عنهما إعتبار أنهما أفعال ، يشكلان سببا رئيسيا في ما آلت إليه الحركة الفكرية الثقافية في عالمنا العربي و التي إقتصرت لدى تفاعلها مع المنتج الغستشراقي و إرثه المعرفي و التاريخي حضاريا إلى:

1. تيار متقوقع تحت مسمى الأصالة والتي لا تقتضي الإنغلاق ، يرفض التعامل مع الآخر المتآمر عليه و المستحوذ على الصواب الإلهي ، مما فرض سورا حول ذلك المنهج والتيار الفكري أعطى للكثير من رموزه ومنابره الفرصة والمساحة الكافية للتأويل الأحادي الجانب و الموتور في الغالب للتاريخ والحضارة والسياسة ، وأصبح لكل رمز منهم قميص عثمان واتباع يتركون عقولهم بجانب أحذيتهم..على أبواب المنابر.

2. تيار آخر وتحت مسمى الحداثة إلتصق بكل إنتاجات الآخر وإستحوذ دور المستهلك بغض النظر عن جودة المنتج ،وتبرأ من الكثير من عناصر الهوية كالتاريخ تحت منطق دارويني يسقطه بقصر نظر منقطع النظير على الهوية لتصبح كالعمل الوراثي ، يمكن تعديله بتغيير الأحماض النيتروجينة ، متناسيين تماما أن الهوية ، لا يمكن أن تعود ابدا لنقطة الصفر ، بل هي تراكمية نقدية.

وجب علي التنويه أن السيد داروين قد إعتذر عن تلك الهوة في سلسلة التطور البيولوجي الإنساني والتي أعابت الكثير من جوانب نظريته والتي كانت منطقية بيولوجيا في الكثير من نواحيها.

ولا يمكننا بحال من الأحوال التعامي عن الظل الفكري الإستعماري و الإستشراقي الظل إستخدم الكثير من التأويلات الداروينية وعملية الإنتقاء الطبيعي والتطور عندما كان الإمبريالية مساقة بالكثير من المظلات التي تناولت دونة ثقافة الرجل الملون ووجوب تنقيح البشرية وبسط سطوة الرجل الأبيض ، وبالذت لدى الثورة الصناعية والحربية و العلمية و البحرية بالذات في دول مثل فرنسا و إنجلترا وهولندا و البرتغال.

فكما قد سيقت أبسط المعارف من دين وفلسفة وجغرافيا وأدب لتسير جنبا إلى جنب مع الإستعماربمباركة الكثير من رموزها مثل ليبينز ونيتشه و غيرهم - مع الأخذ بالعين الفعل و التأويل و المسافة بينهما- ، إلا أن كل ذلك إنما جاء ليغرس دونية الثقافة والهوية القطرية و القومية بكل عناصرها وليظلل ثقافة المستعمر بالمعرفة بشتى صنوفها وإنتاجاتها التي غرست بالقوة .

القوة العسكرية و التي و إن غابت في العولمة في عصرنا الحديث ، وظهر بديلا لها القوة الإقتصادية والتي تتميز ببرودة الدم وبطء إتمام الفعل وصمته.

إلا انها تترك مساحة جيدة للمقاومة إذا ما أمكننا تفكيك السلاح الإقتصادي بالشفافية والرؤى الإستراتيجية البعيدة عن الكراسي ، فسيظل لنا العامل الثقافي و الذي سيرد تباعا في هذه السلسلة.

No comments: